د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
دأبت مجلة "العمارة الكونية" Global Architecture اليابانية المعروفة على نشر بين فترة واخرى، عدد خاص من منشوراتها تدعوه "الوثيقة" Document،
تتناول فيها احداث معمارية مرّ بها مسار العمارة، والتى تقول عنها بانها ".. تقدم افضل ما يمكن من تصاميم كونية، مركزّة على نوع من عمارة بمقدورها ان تعبر عن زماننا، وتسعى وراء تسجيل تاريخ العمارة المعاصرة. وتضيف بانها تبتغي ايضا اتاحة الفرصة امام الباحثين والنقاد لتقديم نصوص ثاقبة لجهة تنوير القراء واعلامهم عن الافكار الجديدة والاحداث المهمة في المهنة".
كرست هيئة التحرير محتوى العددين 155 + 156 الصادرين هذا العام (2022)، وهما من اصدارات "العمارة الكونية": <وثيقة>، الى خمسين مشروع تم تنفيذهم في فترة زمنية محصورة ما بين 1980 – 2000؛ وهي فترة تُعدّ ، كما هو معلوم، من الفترات المهمة والحَرِجة في مسار العمارة المعاصرة: مهمة، لان ثمة تطورات جذرية ومقاربات تصميمية عديدة ظهرت في تلك الفترة؛ وحَرِجة، لكون تلك التطورات والمقاربات لعبتا بمثابة "فاصلة" بين مرحلتين: مرحلة عمارة الحداثة، وما بعد الحداثة. اذ في تلك الفترة الزمنية حدثت "القطيعة" التامة بين ما كان يعرف بالعمارة الحديثة وقيمها الخاصة التى ترسخت في المشهد المعماري منذ العشرينات، وبما آل اليه ذلك المشهد لاحقا وهو "يفور" بطرز واتجاهات تصميمية دعيت بعمارة ما بعد الحداثة، وهي جميعها لا تمت بتاتا الى قيم ومبادئ تلك المفاهيم التى اشتغلت عليها عمارة الحداثة لعقود وسعىت وراء تكريسها في الخطاب وفي المشهد.
ما يثير في اختيارات هيئة تحرير مجلة "العمارة الكونية"، هي ان جميع الخمسين مشروع المنشورة في العدد المزدوج من اصدارات "وثيقة"، هي تصاميم مقتصرة على معماريين اوربيين وامريكان ويابانيين. لا نرى في تلك القائمة الطويلة معماريين من اقاليم وقارات آخرى؛ وكأن "الكون" الذي تتباهى هيئة التحرير و<تتمشدق> به متوقف على ذلك "الثالوث" الجغرافي لوحده فقط. ليس هناك من امثلة منشورة عن منطقتنا العربية ولا من افريقيا وحتى من امريكا اللاتينية او الهند او غرب آسيا.
نقرأ في قائمة المعماريين الذين صمموا تلك الابنية اسماء عديدة ومهمة وذات اعتبار في رسم بانوراما عمارة تلك الفترة الزمنية، لكن تلك القائمة، ومرة آخرى، تخلو من عمارة "اوسكار نيماير" (1907 – 2012) على سبيل المثال وهو معمار مهم ورائد ظل يجتهد ويصمم الى آخر سنين عمره المديد. كما ان تلك الاسماء بقيت غفلا عن ذكر اسم لامع في فضاء العمارة مثل " زهاء حديد " (1950 -2016)، رغم انها صممت ونفذت العديد من المشاريع ابان تلك الفترة. لنتذكر "محطة اطفاء الحريق فيترا" (1991 – 93) في "ويل ام راين" بالمانيا، التى عُدت، وفقا لكثر من النقاد، من طلائع الامثلة التى ساهمت في تكريس مفهوم عمارة الحداثة بالمشهد المعماري المهني، كما ان تصميمها المميز الآخر " مركز الفنون المعاصرة في سينسيناتي" (1997 -2000) في امريكا Contemporary Arts Center, Cincinnati بقى منسيا وغير مذكور ضمن المباني المنشورة، مثله مثل غيره من المشاريع الآخرى، التى لا يمكن ايجاد تفسير مقنع لمثل هذا التجاهل والتغاضي والاهمال!
يتيح العدد المزدوج من<العمارة الكونية/ وثيقة>، مشاهدة النماذج التصميمية لتلك الفترة التى امست الآن "تاريخاً" لعمارة ما بعد الحداثة. اذ نلتقي، على سبيل المثال، مع مشروع فيليب جونسون "مبنى ادارة AT&T" (1984) في نيويورك، الذي فاجأ العالم المهني وقتها بلغته "الكلاسيكية" المفرطة، كما نتذكر مشروع "جيمس ستيرلنغ" J. Stirling "مركز الفنون" (1984) في شتوتغارت بالمانيا ، الذي عُدَّ من طلائع امثلة عمارة ما بعد الحداثة. ونشاهد ايضا مشروع مايكل غرفيس M. Gravis "مبنى هومانا" Humana (1985) الشهير في "لويسفيل" في < كينتاكي> بامريكا كاحد نتاجات "المعمارين النيويوركين الخمسة" الذين، بنتاجهم المميز واللافت، اثاروا انتباه المجتمع المهني العالمي. كما نشاهد في ذات العدد وضمن تلك الكوكبة الرائدة من معماريي ما بعد الحداثة اعمال عديدة خاصة بالمعمار الياباني المعروف " تاداو اندو"، والمعمار الهولندي الشهير "ريم كولهاس" ومكتبه OMA، وكذلك مشاريع المعمار الفرنسي "جان نوفيل"، والانكليزي "نورمان فوستر" والامريكي "فرانك غيهري" وكذلك "بيتر ايزنمان" الامريكي و"اراتا ايزوزاكي" الياباني، والفار سيزا" البرتغالي و"رنزو بيانو" الايطالي وغيرهم من المعماريين المهمين الذي اثروا مشهد عمارة ما بعد الحداثة بتصاميم لافتة ذات لغة معمارية استثنائية.
يتم عرض مشاريع المعماريين بنسق متماثل، يتضمن اسم المعمار واسم المشروع وسنة التنفيذ والمدينة مع اسم الدولة التى يتواجد فيها ذلك التصميم. كما تقدم هيئة التحرير نبذة موجزة عن التصميم بالغتين الانكليزية واليابانية، مع صور عديدة للمشروع إضافة الى نشر مخططات تصميمية له.
في مشروعه "الغاليري الحكومي" (1984) The Staatsgalerie في "شتوتغارت" بالمانيا، المنشور في العدد المزدوج، يذهب مصممه المعمار البريطاني "جميس ستيرلنغ" (1926 -1992) J. Stirling بعيداً بجرأة واضحة الى "توقيع" مبنى "الغاليري" بالحديقة الخلفية لمبنى تاريخي. كما ان ما يثير في هذا المشروع، الذي ابان بشكل واضح عن تطلعات عمارة ما بعد الحداثة، هو المناسيب المختلفة الموظفة بمهارة في التصميم، والاتكاء على تضاد المواد الانشائية المستعملة، إضافة الى اصطفاء "فورمات" غير تقليدية لاحياز المنهاج التصميمي. وقد ظلت اصداء عمارة هذا المبنى تتردد كثيرا في الاوساط المهنية، بكونها مثالا نموذجيا لما سوف يعرف باسلوب "عمارة الحداثة" في ذلك الوقت المبكر من عام 1984، كما حظى اسم مصممها على اهتمام زائد ونال شهرة واسعة، خصوصا هو الآتي من بلد (انكلترا) لم يعرف عنه، حينها، اكتراثه العميق بالتطلعات المجددة والطليعية بالشأن المعماري.
ثمة مشروع آخر، منشور في العدد المزدوج، وهو الخاص عن "بارك دي لا فيليت" (1998) Parc de la Villette للمعمار "برنارد تشومي" (1944) B. Tschumi (وهو معمار سويسري- فرتسي- امريكي)، الذي هو الآخر حظى مشروعه باهتمام كبير منذ مراحل المسابقة المعمارية ولحين تنفيذه وظهوره المثير في البيئة المبنية. ففي موقع صناعي قديم كانت هناك قاعة كبيرة في المكان شغله لفترة طويلة "مسلخ" او "جزارة"، ومن ثم حُوّلت لاحقا الى قاعة لمتحف العلوم. وقد تطلب منهاج المسابقة تغيير الموقع وايجاد تصميم ينطوي على برنامج من الوظائف متعدد الطبقات مع ايجاد فلسفة جديدة لاستخدام المكان بضمنها "مدينة الموسيقى"، والتركيز بجعل فضاء الموقع ليكون "بارك عمومي". كان مقترح المعمار "تشومي" طموحا، يتضمن اعادة تنظيم الموقع من خلال وجود اشكال ظريفة ذات نفس تهكمي (دعاها المعمار بـ "الفولي" Folly ) موقعة في نقاط تحددها <شبكة متسامتة> Grid System تبعد النقطة الواحدة عن الآخرى بمسافة 120 مترا، مغطية جميع فضاء البارك العمومي. وقد اضيفت مسارات للسابلة تقطع الموقع وتشكل ممرات من المسارات تقود الوصول الى حدائق بعينها ذات مواضيع محددة. كما استخدمت سطوح المساحات الفاصلة بين تلك النقاط ومنظومة الخطوط لانشطة حدائقية متنوعة مثل ممارسة الرياضة في الهواء الطلق. ويثير المشروع المصمم بقنواته المائية وبعشبة الاخضر مع اشكال "الفولي" الحمراء اهتمام مستخدمي وزوار البارك العمومي. لكن الاهم معماريا هو ان هذا التصميم الذي يعود نَهجه الى نُهُوجٌ عمارة ما بعد الحداثة، امسى مقبولا ومقنعا و..ممتعاً من قبل زوراه العديدين.
من ضمن المشاريع المختارة من منتج المعمار الامريكي المعروف "ريتشارد ماير" (1934) R. Meier والمنشورة في ذلك العدد المزدوج، هو مشروع "مركز جيتي" (1997) Getty Center في "لوس انجلوس/ كاليفورنيا، امريكا". والمركز هو عبارة عن متحف ومركز ابحاث بمساحة تقدر بـ 110 أكر (والأكر الواحد يعادل 4047 متر مربع)، ويقع على قمة تل بجوار طريق سريع في لوس انجلوس الكبرى. ويتم الوصول اليه عبر الترامواي من مناطق وقوف تحت الارض. تم تجميع وتصميم القاعة الرئيسية والمكاتب والمتحف والمكتبة ومركز الابحاث وبقية تشكيلات المركز الآخرى حول سفوح التلال. ويمتلك كل مبنى احساسا خاصا مُتأتّي من نوعية وحدة المواد الانشائية المستخدمة. وقد استطاعت لغة ماير المعمارية ان تضفي تنوعيا مميزا على تجميع كتل المبنى المصممة. ثمة احساس من النسق والتنظيم يمكن ان يحسه زوار المركز ومشهادي عمارته، وهذا الاحساس استطاع المعمار المعروف ان يظهرة بمهارة فائقة رغم كثرة مفردات المشروع وانتشارها على مساحات فسيحة. بيد ان الامر المثير في كل هذا، هو ان المعمار المعروف بمقاربته الخاصة التى ظل يتمسك بها منذ ظهوره مع زملائه الخمسة (مجموعة المعماريين النيويوركيين الخمسة) عدت اضافة الى توجهات عمارة الحداثة رغم انها اتكأت، كما هو معلوم، على قيم الحداثة ومبادئها ..واشكالها المميزة!
ورغم ملاحظاتنا عن معايير اصطفاء المعماريين واختيار عماراتهم التى اوردناها في مستهل مقالنا هذا، فاننا نجد في هذا المطبوع اثراءً معرفيا رصيناً، اعاد الى ذاكرتنا تلك المشاريع المميزة التى قُدّر لها ان تغير الذائقة المعمارية السائدة وقتها وتفتح افاق جديدة وغير مسبوقة في الممارسة المعمارية بتبنيها مقاربات "عمارة ما بعد الحداثة" والتى امسى نتاجها جزءاَ لا يتجزأ من مشهدنا المعماري المعاصر .
جميع التعليقات 1
د.سمير عبد الرسول العبيدي
السلام عليكم..مقال مميز للأستاذ الدكتور خالد السلطاني وهو من اول من اهتم بتوفيق التراث المعماري في العراق والعالم