طالب عبد العزيز
باستثناء الجاحظ(ت 255ه) قلما نجدُ كاتباً عنى بكتابة تاريخ العامة في البصرة بخاصة، ومنحنا فرصة معاينة حياة الناس خارج بلاط السلطة، ومكننا من ملاحظة التفاصيل الصغيرة، التي نعدم وجودها في كتابات غيره. التفاصيل الصغيرة هذه كانت في متناول هؤلاء الكتبة، إلا انهم زهدوا بها، جرياً وراء القاعدة العامة في الكتابة، أو طمعاً بالهبات والمنح، التي كان الوالي أو الخليفة يتفضل بها عليهم.
ومثلهم فعلت طبقة الوعاظ والخطباء وأئمة المساجد، فلم يتركوا لنا من الخطب التي كانت لهم في الجُمعات إلا البسملة والحمدلة، والدعوة بتمام النعمة، على الخليفة والوالي، ولم نقرأ لأحدهم وصفاً لأحوال الناس، وطبيعة حياتهم، وما تنعموا به، أو عانوا منه، إنما ظلت خطبهم باهتة بلا لون ولا طعم، ولم تشذّ عن القاعدة تلك. وهذا ما نجده في وصف كبار المؤرخين، كالطبري، مثلاً لعلي بن محمد(صاحب الزنج) الذي وصفه بأقذع الصفات فكل ما وصلنا منهم عن صفاته: أنه وجماعته عبيد وفساق وقتلة، مرقوا على الخليفة الموفق بالله، وتنكروا لأولياء نعمتهم، فحقّت عليهم الملاحقة والتقتيل.
يجد الباحث الآن في الشأن هذا صعوبة بالغة في استحصال تفاصيل أكثر عن حياة العامة، من صغار المحاربين والفلاحين والحرفيين والصناع وسواهم، لكنه يجد الكثير، والكثير جداً عن حياة الولاة، ورواة الحديث، والفقهاء، والشعراء وغيرهم من ابناء الطبقة الاولى، لذا عليه أن ينشب أظفاره في المتون الصغيرة والكبيرة، ويبحث في الهوامش عن النتف التي قد تساعده في استحصال بغيته.
قدّم الجاحظ لنا زاداً استثنائياً عن الحياة في القرون الهجرية الثلاثة الاولى، ومكننا من معرفة عظيمة انقطعت بعده، فلم يحدث أن دوّن أحدٌ من الكتاب، وعبر القرون اللاحقة كلها ما دوّنه، حتى لنشعر بأنَّ عدواه لم تصب أحداً، إنما ظلوا أسارى دواوين الخلفاء والولاة يكيلون المدائح لهم، ويعظمون من شأنهم، ويصفونهم بالعز والرفعة والمنعة، واستمر الامر على الحال هذه حتى مطلع القرن العشرين، فهذا عبد المسيح الانطاكي (1875 - 1922 في (الرياض الخزعلية) يخلع على الشيخ خزعل الكعبي(1861 - 1936) أمير المحمرة من المدائح والتعظيم ما لم يخلعه أحد على ممدوح، وخط له ما يشبه اليوميات شعراً ونثراً لكنه، لم يتطرق بسطر بصفحة واحدة لحياة رجال العشائر، من الفلاحين، والعبيد المملوكين له، الذين عانوا الامرين على يده وحاشيته.
يمكننا أن نتحدث باهتمام واحترام بالغين عن صاحب كتاب (بلدية البصرة) السيد رجب بركات (1925-1999) الذي قدّم لنا مادة وثائقية هامة، استلها من آلاف الوثائق العثمانية والانجليزية والعربية، ثم جمعها في كتابه هذا، ليرشدنا الى الجانب الآخر من الحياة العراقية، في البصرة، بخاصة للفترة بين العامين (1869-1981) فكان خير من أطلعنا على حياة البصريين، مستثمراً وجوده في الوظيفة، يوم كان رئيساً لبلدية البصرة، بوقوفه على مخاطبات ومكاتبات وبرقيات واعمال كثيرة، اشترك فيها المسؤول الرفيع في الحكومة مع الادنى منه فالادنى، وليس انتهاءًا بعامل البلدية والمكاري، صاحب الحمير. ولنا في الخبر الذي نقلته جريدة “بصرة” بعددها 34 في صفر 1308ه والتي كانت تصدر في زمن الدولة العثمانية، قبل 137 سنة أنه: “قد منع قانون البلدية أن لا يحمل البرذون أزيد من مائة وعشرين حُقّة، والحمير ازيد من ستين حُقّة.. وقد راينا مع الأسف ممن ليس له انصاف، وهو يحمّل البرذون ثلاثة افراد، وكل فرد فيه ستون حُقّة فيكون الحمل مائة وثمانين حُقّة..»