لطفية الدليمي
لماذا يختارُ أحدُنا أن يكون عالِماً ؟ وماالعوائق التي يمكنُ أن تعترض مسار الشباب اليافعين الذين يعتزمون اتخاذ خيار أن يكونوا علماء في المستقبل ؟
يبدو أنّ الكثرة الغالبة من الأطفال والمراهقين والشباب اليافعين لايمتلكون أية فكرة رصينة عمّا يعنيه أن تكون عالِماً . هم لايعرفون كيف السبيلُ ليكون المرء عالِماً ، فضلاً عن أنهم لايعرفون ماالذي يفعله العالِم . الامر ذاته نرى له مصداقاً مع الناس البالغين ؛ فَهُمْ والأجيال الأكثر شباباً سواء بسواء .
الأمر الجوهري في كلّ مهنة علمية يختصُّ بالدافعية Motivation . لماذا نختارُ العلم مهنة ؟ هذا هو التحدي الأصعب ، والتعامل مع هذا التحدّي يتطلبُ اهتماماً زائداً والكثير من الحذر والدقة .
يرى الفيزيائي الأمريكي مارسيلو غلايسر Marcelo Gleicer أنّ السبب الاول الذي يدفعُ المرء لاختيار العلم مهنة هو شغفه المُعْلَنُ بالطبيعة . يكتب غلايسر في هذا الشأن :
« إذا رغبتَ في العلم مهنة مستقبلية فأتوقّعُ منك شغفاً لايبارى في إستكشاف ومساءلة أحجيات الكون ، ويستوي هنا الكون مفرط الكبر ( المجرات ) مع الكون بالغ الصغر ( على المستوى الذري ومادون الذري ) . قد يبدو هذا الشغف رومانسياً بعض الشيء لامحالة ؛ لكنه شغف أساسي لكلّ محبّ للعلم وطامح لمهنة علمية . نحنُ نختارُ العلم مهنة لأن ليس بوسع أية مهنة سواه أن تتيح لنا قضاء حياتنا في محاولة معرفة كيف يعمل العالَمُ الذي نعيشُ فيه ، وكيف يتناغم وجودنا الانساني مع المخطط الكبير للاشياء في هذا العالم . قد يحصلُ أن يبلغ عالِمٌ ما إكتشافاً عظيماً أو يحقق إنجازاً ذا مفاعيل مستديمة لاتخفت مع الزمن ؛ لكن مع ذلك حتى لو كانت مساهمة بعض العلماء صغيرة بالمقارنة مع المساهمات العظمى للبعض الآخر فإنّ مايهمُّ في نهاية المطاف هو أن نكون جزءً من الصيرورة التطورية للعلم ، وأن نكون جزءً من مجتمع العلماء الذين كرّسوا حياتهم لإكتشاف الحقائق الجوهرية والقوانين الحاكمة للعالم ولأنفسنا « .
أظنُّ أنّ أغلبنا ممّن عاش طفولته وشبابه اليافع في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لم يزل يتذكّرُ ذلك المسلسل الفاتن ( ستار تريك Star Trek ) بنسخته الأولى غير الملوّنة وشخوصه المميزين الذين كانوا في عصر براءتنا الاولى أقرب إلى نسخ حية من أبطال الملاحم الاغريقية. كانت مقدّمة المسلسل مبهرة بموسيقاها التي نقلت لنا الإحساس بالكون البعيد الذي نعرف أننا ربما لن نبلغه يوماً ما . كم كانت بهجتنا تتصاعد مع تعاظم الدفق الموسيقي المشحون بالإثارة عندما يقول الصوت البشري المقترن بالموسيقى المثيرة : « هذه هي رحلات سفينة الفضاء إنتربرايس ..... التي تسعى لإكتشاف عوالم جديدة ..... والبحث عن أنواع جديدة من الحياة .... والذهاب بشجاعة إلى حيث لم يذهب إنسانٌ من قبلُ !! « .
إنّ مهمّة سفينة الفضاء ( إنتربرايس ) هي ذاتها مهمة العلم : الذهابُ إلى حيث لم يذهب إنسانٌ من قبلُ . هي مهمّة إختراق عوالم جديدة وتوظيف نتائج تلك المهمة لصالح النوع البشري . إنها مهمّة لانهائية ، وهذا المسعى اللانهائي هو مايمنحُ العلم ذلك القدر اللانهائي أيضاً على مكامن الدهشة والبهجة في أرواحنا وعقولنا .
بات من الواضح أنّ فترة الإغلاق الإجباري عامَيْ 2020 و 2021 جاءت هدية كبرى للبعض منّا لكي يتمكّنوا من إكمال مشاريعهم المنتظرة ، ومن هذه المشاريع كتابةُ كتبٍ لطالما قاتلوا في سبيل إنتزاع الوقت المطلوب لكتابتها . أحدُ هؤلاء هو الفيزيائي والفيلسوف العلمي والباحث في تأريخ العلم جم الخليلي Jim Al-khalili ، عراقي المولد وبريطاني الجنسية ، الذي صار أحد أقطاب تبسيط العلم ونشر المعرفة العلمية على مستوى العالم عبر كتبه ووثائقياته وحواراته الكثيرة فضلاً عن برنامجه ذائع الصيت LifeScientific الذي تبثه قناة BBC .
كنتُ قد عرضتُ سابقاً قراءة في كتابه ( العالم كما تفهمه الفيزياء ) المنشور عام 2020 عن دار نشر جامعة برينستون الأمريكية ، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة تلك المادة لكي يتعرّف أكثر على شخصية الخليلي ومؤلفاته .
يواصلُ الخليلي جهوده التأليفية الحثيثة ، وكان من نتائج تلك الجهود أن نشرت له جامعة برينستون قبل بضعة شهور ( بالتحديد يوم 12 أبريل 2022 ) كتابه الأحدث الذي إختار له عنوان ( بهجة العلم The Joy of Science ) .
ينتمي الكتاب إلى فئة الكتب التي تعنى بالفلسفة العلمية ، وإذا ماشئنا الدقة فإنه ينتمي إلى فئة الكتب التي تعنى بفلسفة المنهج العلمي ؛ لكنْ علينا أن لا نذهب بعيداً في التصوّر بأنّ الخليلي يكتب بطريقة ( فلاسفة العلم ) المعروفة . يعتمدُ الخليلي مقاربة تبسيطية في الكتابة رغم رصانتها الفائقة ، وهو يسعى للإجابة عن سؤال مركزي واحد : لماذا صار العلم وسيلتنا الوحيدة في معرفة واستكشاف طبيعة الواقع ( بمعنى العالم المادي ) الذي نعيش فيه ، ولماذا صار العلم أداتنا المعتمدة في البحث عن الأصول الثلاثة الكبرى : الكون والحياة والوعي ؟
يبدأ الخليلي كتابه بتقديم مقتضب ، يليه مقدمة على قدر غير يسير من الاسهاب الممتع ، ثم يأتي متن الكتاب الذي يتوزّعُ على فصول ثمانية يتناول الخليلي في كلّ منها موضوعة تنتمي إلى ميدان المنهجية العلمية . سيلاحظ القارئ أنّ عناوين الفصول لم تأتِ بالشكل التقليدي الذي إعتدناه بل إرتأى الكاتب أن يجعلها بصيغة سؤال أو عبارة تقريرية تنطوي على شيء من الحس الدرامي . من الموضوعات الخاصة بفلسفة المنهج العلمي والتي يتناولها الخليلي في كتابه هذا : مسألة العلم الحقيقي والعلم الزائف ، ظاهرة التعقيد في العلم ، الأحجيات والألغاز ، الفهم البشري والمحاولة الحثيثة لمقاربة الحقيقة ، الرأي الشخصي في مقابل الشواهد التجريبية ، ضرورة معرفة انحيازاتنا الشخصية قبل محاكمة آراء الآخرين ، ضرورة عدم الخوف من تغيير آرائنا المسبقة ، وأن نجعل البحث عن طبيعة ( الواقع ) الحقيقية فضيلتنا الكبرى في العلم . لعلّ القارئ سيلحظُ أنّ هذه العناوين تنطوي على شيء من أخلاقيات البحث العلمي ، وليس هذا بغريب ؛ فالبحث العلمي الحقيقي أحد العناصر التي تشحذ الأخلاقيات البشرية وتُعلي مناسيب العقلنة والحياد والرؤية الموضوعية والتفلّت من أسر القيود الذاتية المسبقة المفروضة على الإنسان . يختم الخليلي كتابه هذا برؤية استنتاجية ، يعقبها مسردٌ لشرح بعض المفردات الواردة في متن الكتاب ، ثمّ يقدّمُ لنا لائحة مطوّلة ( كعادته في كتبه الأخرى ) ببيبلوغرافيا توثيقية وقراءات إضافية موسّعة .
ربما كان مسلسل ( ستار تريك ) هو الدافع لأن يختار شباب كثيرون في العالم العلم مهنة مستقبلية لهم ، وقد تكون قراءة بعض الكتب الملهمة هي الدافع لدى آخرين مثلما حصل مع الخليلي الذي يكتب في العبارات الاستهلالية من تقديمه للكتاب :
« عندما كنتُ طالباً شاباً في منتصف ثمانينيات القرن الماضي قرأتُ كتاباً عنوانه ( عرفانا بالدهشة To Acknowledge the Wonder ) الذي كتبه الفيزيائي البريطاني إيوان سكوايرز . تناول الكتاب أحدث الأفكار المعروفة – آنذاك - في الفيزياء الأساسية ، ولم أزل أحتفظ بنسخة من ذلك الكتاب على أحد الرفوف في مكتبتي بعد مايقاربُ الأربعة عقود من ذلك التأريخ . صحيحٌ أنّ بعض المواد في ذلك الكتاب قد تقادمت في يومنا هذا ؛ لكني لم أزل أعشقُ عنوان الكتاب . عندما كنتُ في تلك السنوات البعيدة أتطلّعُ لمهنة في الفيزياء كانت فرصةُ معرفتي بالدهشة التي يقدمها لنا العلم هي ماألهمني حقاً لتكريس كلّ حياتي اللاحقة للعلم ....... “ .
أتساءل دوماً إلى حد اصبح معه هذا التساؤل هاجساً ملحّاً لي مثلما يجب أن يكون لكلّ صانعي السياسات التعليمية والقيّمين على شؤون التعليم ( ماقبل الجامعي والجامعي ) : لماذا يخفتُ عند شبابنا ذلك الشغف الطاغي بالعلم وهُمْ في مقتبل أعمارهم ؟ ربما تكون الأسباب الثلاثة التالية التي يقترحها غلايسر مفاتيح لفهم هذه الظاهرة التي يتوجبُ أن تكون ميداناً لدراسات معمّقة :
السبب الأول : ضبابية صورة العالِم في حياتنا اليومية
العقبة الأولى أمام ترسيخ العلم والفهم العلمي في مجتمعاتنا تكمنُ في أنّ العلماء يفتقدون كونهم صوراً مرئية حقيقية أمام الآخرين . إذا كان معظم الناس لايعرفون عالِماً حقيقياً ( بلحمه ودمه كما يقالُ في الأمثال المتداولة ) ، وإذا كانت مرجعياتهم الثقافية عن العلماء هي مايرونه في الأفلام والعروض التلفازية فسيكون من العسير على هؤلاء الناس أن يتطلعوا لمهنة في الحقل العلمي في المستقبل .
يمثلُ العلمُ الخلفية التي تتأسسُ عليها حياتنا اليومية . قد يبدو العلمُ معظم الوقت خبيئاً عن أنظارنا وبعيداً عن حاجاتنا اليومية ولانتعامل معه إلا لماماً عندما نسمعُ – على سبيل المثال – بشأن مذنّب يقترب من الأرض ، أو عندما نتطعّمُ بنوع جديد من اللقاحات ؛ لكننا في الغالب لانعرفُ شيئاً عن العالِم الذي إكتشف ذلك المذنّب مثلما لانعرف شيئاً عن الفريق البحثي الذي طوّر ذلك اللقاح .
كيف السبيلُ إلى حلّ هذه العقبة ؟ أرى أنّ الحلّ يكمنُ في تكريس الصفة الحقيقية للعلماء ؛ أي بمعنى زيادة مساحة الزمن الذي يظهر فيه العلماء أناساً حقيقيين يهتمون بأمر معضلاتنا البشرية وليسوا محض كائنات مريخية أو خرافية تهتم بشؤونها الخاصة البعيدة عن المجال العام .
السبب الثاني : الصور النمطية Stereotypes
السبب الثاني يتمثلُ في تأكيد صورة نمطية للعالِم بكونه “ المجتهد المهووس بالعمل Nerd “ الذي يبدو منعزلاً عن معرفة السياقات الاجتماعية السائدة والأعراف السلوكية المعتمدة . الخصيصة النمطية هنا ذات ميزات معروفة : العلماء ذوو شعر أشعث ، ولاأصدقاء لهم سوى أشخاصٍ بمثلِ صفاتهم ، وهم منسحبون إجتماعياً ويُبدون نمطاً من الجبن والتخاذل في المواقف التي تتطلبُ تفاعلاً اجتماعياً مؤثراً ، وأنهم ماصاروا علماء إلا ليكون العلم لهم مهرباً يختفون فيه من عبء مواجهة الواقع ومتطلبات الحياة الحقيقية .
لاأظنُّ ثمة ماهو أسوأ من التعميمات التي تتقنّعُ في شكل بائس من التوصيفات الاختزالية الجامعة ؛ فالمجتمع العلمي له من الخصائص المتباينة والمتعاكسة مثل تلك التي نشهدها عند أي مجتمع آخر من المهنيين ( الأطباء والمهندسون والاقتصاديون وعلماء الاجتماع مثلاً ) .
السبب الثالث : ضغوط العوامل القاتلة للشغف العلمي
الطريق لأية مهنة علمية طريق طويل تكتنفه مصاعب شتى ؛ لذا كان الشغف عنصراً أساسياً في هذه المهنة . من غير الشغف ، ومع تزايد وعورة الطريق سيفقد المرء حماسته وستضيع بوصلته . إذا اردتَ ان تكون عالِماً ستحتاجُ بالتأكيد لإكمال دراساتك العليا ثم يتوجبُ عليك أن تتبعها بدراسات مابعد الدكتوراه ، وعليك أن تتوقع قدراً من المداخيل المالية أقلّ ممّا يكسبه محلّل نظم حاسوبية أو سمسار أوراق مالية في البورصة أو مهندس في أي حقل هندسي . سيكون شاقاً عليك في بعض الأحايين أن تمضي حثيثاً في تحقيق أحلامك والإبقاء على شعلة تطلعاتك حية متوهجة بفعل ضغوطات شتى ؛ لكن لامناص من تدريب نفسك على مواجهة مثل هذه الضغوطات لأنك تعرف أنّ بمقدورك إحداثَ فرقٍ في هذا العالم ، ولستَ واحداً من هؤلاء الذين لايعنيهم شيء سوى الحصول على مرتّب مالي نهاية كلّ شهر .
* * * * *
بقي لي أن أقول : كانت خطوةً شجاعةً ونادرة أن نرى ترجمة عربية لكتاب الخليلي ( العالَمُ كما تفهمه الفيزياء ) بعد بضعة أشهر من صدوره ، وستكون خطوة ممتدة في إعلاء شأن العلم والمعرفة العلمية في بيئتنا العربية إذا ماشهدنا ترجمة عربية لكتابه الجديد في الشهور القليلة القادمة .