حيدر المحسن
كي تمضي الحياة، فإنها تحتاج إلى كفاح -العبارة لجورج سيفيريس- كما لو كانت نهرا فيّاضا يمرّ من سمّ الخيّاط. للعافية طعمها المميّز، وكذلك المرض إذا جاءنا بشميم الطّفولة، ولا يستقرّ هذا في جزء خامد من الذّاكرة، بل يأخذ حيّزا كبيرا في النّفس والذّهن. في رائعة مارسيل بروست “البحث عن الزّمن المفقود” يشمّ القارئ بين حين وآخر وهو يقلّب الصّفحات روائح صبا الكاتب، ومن بينها نستطيع أن نرى وردة السّقم التي حملها بروست خلف أذنه في زمن بعيد.
فجأة، يحلّ هذا الزّائر الثّقيل ويجعل حياتنا تختلف، كلّ شيء صار فيها يحمل وصفا جديدا. لكن نومك يبقى كما هو، وأحلامك أيضا، فهي تتلوّن منذ الآن باللؤلؤيّ الرماديّ الذي لا يلتقيه أحد إلاّ عند حدوث معجزة، وهذه لا تحدث في الواقع. إن معاشرة العلّة تختلف لدى الشاعر عن البقية، وكأن نامق سلطان كان يهيّئ نفسه لما سوف يجري في قادم الأيام، عندما كان يكتب قصيدته “في الأعالي»:
في محاولةٍ لتمثيل دور الفائز
في الجولة الأخيرة مع الضّجر
تجاهلتُ صخبَ الأولاد خلف السّياج
وألقيتُ بنفسي على كرسيٍّ في الحديقة
ورميتُ برأسي إلى الخلف
فرأيتُ السّماءَ صافيةً...
لم تكن صافيةً تماماً، فهناك باشقٌ يحلّق في الأعالي
يذهبُ ويعود، ليقفَ فوقي مباشرة
ًكأنّما يحاولُ استدراجي إلى أنْ أكون فريستَه
وكان عليّ أن أنتظرَ طويلاً
حتّى يتلاشى شعوري بالهزيمة
أمام طائر صغير في السّماء.
ورد في قول مأثور باللّغة السّنسكريتية: “النّفس تعطي العينين البصرَ، والإلهة (سيفا) هي من أعطتِ النّفسَ البصرَ”. الشّاعر يتقبّل هذا القول، بعد أن تحلّ إلهة الشّعر مكان (سيفا)، وأهدتِ الإلهةُ الشّاعرَ أن يبصر مرضه منذ زمان بعيد، هو تاريخ كتابة القصيدة، كي يتهيّأ لطائره الذي يراود الآن سماءه.
التقيت بنامق سلطان أول مرة في شهر تشرين أول عام 2020 في مدينة دهوك، وما زلت محتفظا بأثر ذلك اليوم في نفسي، ولم يكن شِعره هو صاحب ذلك الأثر، ولا صوته الدّافئ الأموميّ، وليست كذلك آراؤه في السّياسة وفي الأدب، إن ما لدى الشاعر من سحر لا يُقاوم يمتلكه في وجهه، فالصّرامة الباذخة في صورته المنشورة على صفحته في الفيسبوك تنقلب فجأةً، ومنذ اللّحظة الأولى من اللّقاء، إلى محيّا يشيع فيه الخجل الذي يشبه الخفر، وسماحة في التّعابير لا تدّعي البراءة لأنّها صورة وافية لها، بالظّلال وبالألوان. وتأتيك مثل هذه الصّورة المقلوبة وأنت تصافحه، فكفّه عريضة وطويلة وغضّة لكنّها تنقل إليك مشاعر واضحة ومكشوفة كأنما لفتاة. هل ما زالت تسكن هذا الرّجل الضّخم مثل قائد حربيّ روحَه الأولى التي نزلت أوّل مرّة على الأرض؟ منذ صافحني، وقد مرّ على تلك الأمسية أكثر من حولين، وأنا أحتفظ في يدي بملمس ورقة شجرة عطريّة حين تفركها بأصابعك، ويفوح منها الشّذا عن طريق اللّمس، قبل أن تستروحه في الهواء.
عند الشّدائد تصبح رائحة العالم قويّة، وكلّ ما تقع عليه اليد يأخذ شكلا آخر غير الأول، ويأتينا السّقم بالطّفولة البعيدة التي توارت وراء انهمار السّنين، ويجهزنا رغم الكِبَر بوردة البراءة كاملة الأوراق واللون والشذى. قبل أيام جرى بيننا اتصّال هاتفيّ وأخبرني الشّاعر بحقيقة المرض الذي علينا جميعا مكابدته ومصارعته والتغلّب عليه في الأخير مع الشّاعر، ذلك أن أكثر ما يمثّلنا في الوجود هو القصيد، فهو يغدق علينا مجانا مثل أشعة الشّمس ونسائم الهواء وأنهار الجبال، ونامق سلطان هو ابن الشّعر الحديث، ومنازلة شبح الضّنى الذي يصاحبه الآن مهمّة الجميع.
يرقد الشّاعر اليوم في إحدى مشافي إسطنبول، ونتكلّم بواسطة الهاتف بين وقت وآخر عن الشّجاعة واللاّمبالاة اللاّزمة في مثل هذه الظّروف. يقول أدونيس: “اللاّمبالاة هي الوردة الوحيدة التي تنحني لها الرّيح”.