طالب عبد العزيز
أعتقد أنْ ليس من الموجب أنْ تتمحور كتب المذكرات، الخاصة بالشعراء والروائيين والكتاب والفنانين على تفاصيل ما خطّوا ودوّنوا من قصص وقصائد وروايات ولوحات في فترة حياتهم، إنما تنفتح الكتابة على الحياة خارج الورق والالوان، ولا يبدو مبرراً حرص بعضهم على خلو مذكراته من العثرات والأخطاء والاخفاقات التي اعترضته، في مسيرة الحياة،
كما اعتاد أدباؤنا في الشرق العربي، ذلك لأن القارئ يبحث عن ما يستوقفه في حياة هؤلاء، ويطالب بوقوفه على المنقلِب والاستثنائي في سيرته، فمجمل ما تقدمه النصوص لن يكون إلا الجانب المظلم من المرآة، أما الضمني والمسكوت عنه فله أسراره وخفاياه، ولعل ما يحببنا في قراءة كتب المذكرات للكاتب من غير العرب، هو ذلك الجانب المختلف والانساني جداً في حياتهم.
أذكر، وانا صبيٌّ لم أبلغ السابعة، جئت أبي مرةً، مبتهجاً بعصاي الصغيرة التي انتصب بين فخذيّ، كنتُ أعتقد بأنَّ مشهداً كهذا سيسره، لأنَّ رجلاً جديداً سينضم الى العائلة، لا أعرف كيف تجرأتُ وأريته شيئَ الصغير ذاك، لكنه صفعني شاتماً، وما زلت اتحسس موضع اصابعه على خدي، فما كان مني إلا أن تفاديتُ النظر اليه أسابيع وأشهراً طويلة، شعرتُ بأنني خدشت كرامته، مع أنني كنت ممرضه في أيامه الأخيرة، ولم أجد حرجاً بإدخال شيئه في المِبولة، أو أخذه الى دورة المياه، وتنظيفه. تركت الحادثة هذه بصمتها على شخصيتي، حتى أنني، أجزمُ أنْ لا أحد من أولادي السبعة تمكن بلفتة منه رؤية اشيائي تلك، على الرغم من وقوعي مريضاً بعض المرات، وقد قربت بلوغ السبعين من السنوات.
كنت في عمر يقترب من المراهقة، لكنني لم أبلغ الحلم بعد، حين ضمّنَ أبي تمره لأحد التّجار الصغار، الامر الذي خلصنا من جهد مضاعف ومسؤولية كبيرة، ولأنَّ الرجل لم يكن ملآن اليد بالمال كما يجب، فقد كان يستعين ببعض عياله، في أعمال الجنيِّ والجمع والنقل والتسويق.. كانت هناك صبيّة جميلة بعمري، هي ابنته، تعارفنا، وصرنا اصدقاء، نمضي نهار اليوم معاً، ونهارات الاسبوع أيضاً، نلمُّ المتناثر من حبّات التمر، وننقله الى المستودع، على النهر، ونرزم العذوق والسعف اليابس، في فعل من افعال الحياة، لم تلوثه أيُّ فكرة جانبية، لكنني، فوجئت بشيء أصغر من كرة المنضدة، رفع ثوبها الى الأعلى، عند جهة الصدر، عرفت اسمه فيما بعد(نهد) وحين سألتها عنه ضحكت، وتوردت غمازتاها ثم أطلعته لي. لا أعرف الرعدة التي أحدثها في قلبي العصفورُ الصغيرُ ذاك، الذي لم تبخل علي بملاطفت،ه كلما غضبت منها. اعتقد أنَّ أجمل مفردة في اللغة العربية هي (نهد) اما اللعين نزار قباني فقد أختار أجمل عنوان لكتاب شعري في العالم(طفولة نهد).
لكنن، وبعيداً عن خدش حياء ابي، مازالت، وإلى اليوم تتملكني رعدةٌ، تشبه رعدة المرجِّل كلما فاجأتني إحداهن بعصفور صغير تحت قميصها، أو بشيء من أجنحته، أما الشقُّ الذي يفرد العصفورين فلا يمكنني إطالة النظر فيه، فهذا يُذلني، يجعلني مرتعداً. لا أحبّه متاحاً، مشاعاً كما في الصور وأفلام البورنو، أو في مواقع الجنس السخيفة، أبداً، اشعر بأنَّ شيئاً ما يفسد المشهد، ينحدر به الى قيعة وسخة، وأن إتاحته تلك تفقده معناه المكنون، وسرّ÷ المستودع فيه، أعشقه واتطلع له بعين الصبيِّ الذي كنته كلما كان مضمراً، متخَيلاً، مدَّخراً، ممنوعاً، مضنوناً به خلف قماشة الموسلين، او الفانيلا. أعتقد أنَّ النهد هو أجمل مخلوقات الله التي وهبها للأنثى.
جميع التعليقات 1
جعفر صادق رشيد
مرحبا استاذ طالب اعتقد قصيدة نهداك من ديوان قالت لي السمراء لنزار قباني اقوى شعرايا من قصيدة طفولة نهد. مع تحياتي