حيدر المحسن
هل سمعتم باسم (هيروستراتوس)؟ تقول «ويكيبيديا» إنه مُشعل حرائق إغريقيّ عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وكان يسعى إلى الشهرة عن طريق تدمير إحدى عجائب الدنيا السّبع القديمة. وقد أدّت أفعاله إلى سنّ قانون يحرّم على أيّ شخص التلفّظ باسمه، وصار اسمه علما على كلّ من يسعى إلى الشّهرة بارتكاب جرائمَ. يقول الشاعر اليوناني «جورج سيفيريس» في قصيدة عنوانها (نيران القديس يوحنا):
«الأولاد هم الذين يشعلون النّيران، ويتصايحون في هذه اللّيلة الحارّة أمامَ ألسنةِ اللّهب وهل كان ثمّة نار لم يشعلها أولاد، يا هيروستراتوس يلقون فيها حبّات الملح، فتقرقع ألسنة اللّهب...». * إن مئات السنين التي مرّت على زمان هيروستراتوس، كأمس الذي عبر. انتهتْ سَورةُ الحربِ، والخيولُ نفقتْ كلها، تقريبًا. كان اليومُ يوشكُ أن ينقضي، والهواءُ لم يكن ليراهُ أحدٌ. أشجارُ الكالبتوس وحدها تروّحُ، والقمرُ المعتمُ كان مفعماً بأضواءِ الغسق. ثم تعطّلتِ المِبخرةُ: روائحُ المِسكِ والدماءِ والملحِ امتزجتْ ببعضها، ومعها عرقُ الأجساد، ولم نسمعْ نأمةَ صوتٍ.
صمتُ الشارعِ، صمتُ حجرِ المسنّاةِ، صمتُ الشاطئ والنهرِ وقاعِ النهرِ. صدى صمتِ السماءِ... كان الدمُ يسيل شيئا فشيئا، وتوقّدتْ أحداقُ الجياد، اتّسَعَتْ كما لو أنها ستصهل، وكانت تقضمُ العشبَ أسودَ اللّون. أتراها كانت تضحكُ، مضمّخَةً بشذا العشب؟ كان أمراً لا يُصَدّق! الشتاءُ يبتدئ الآن، ومع البرد تشتعلُ أجسادِ الجيادِ بالرقّة، غبارُها يشبهُ حبوبَ الطّلع في النّهارِ، والتّبغَ في الليل. كان في القلبِ شيءٌ يشبهُ الخوف، والليلُ يواصلُ سُخطَهُ التامَّ والشاملَ. يا لينابيع الدم! رسمتْ حوافرُ الجيادِ قوساً طويلاً من العذابِ، أحاطَ بالسروج المبعثرة، والمياهُ تلوّنتْ بالأحمر النقيّ، بيضاءَ صارتْ ورديةً، زهريّة اللّون أوْ سوداءَ كانت بفعل الألم، زرقاءَ معتمةً... غبارٌ. غبارٌ. من أينَ يأتي الغبارُ والشاطئ رمليٌّ والشّارعُ مرصوف بالحجر؟ وكانت أذرعُ النائحاتِ بيضاءَ من فرطِ الحزنِ والغضب. هو البُهاق الذي يصاحب البشر عند التعاسة الشديدة والألم المُمضّ. مزّقت النساء ثيابهنّ وبكينَ بمرارةٍ. قصّت إحداهنّ ضفيرتَها ورمتها إلى النهر. ها هي الأبواقُ تصيح والطبول تقرع في مسيرة جنائزية، والقمر في السماء ينير الشاطئ. جذّت المغنيةُ قرطَها - كما يحدث في الأحلام أو في السينما، ياقتها كانت مخرّمةً وثوبُها من المخملِ. الموجُ ناعمٌ، وصياحُ النّوارسِ تجمعهُ الرّيحُ. يشتدّ، يشعلُ ضوءاً في السّماءِ لا يراهُ أحدٌ. ضوءٌ نورسيٌّ ليليٌّ لا يوصف. كانت الرّيحُ تميتُ الضّفيرةَ، وصراخُ المغنيةِ يبعثها حيّةً، والجيادُ الميّتة تشبه دنانا محطّمة. في الفجرِ لن يبقى لنا شيءٌ لأن الخيولُ ماتتْ. قُطعت رؤوسها ولويت أطرافها والأعراف جُزّت وبُعثرت على الشاطئ. ما نفعُ الأسئلة الآن، والحلولُ كلّها تشبهُ ضربَ السّيفِ في الهواء، مرّات ومرّات؟ أجملُ ما في الحصان خصره، تلي خصرَهُ قوائمُهُ، ثمّ الحوافرُ. أجملُ ما في الحصانِ كدرُهُ، تجري الجياد لأن امتلاءها يُثقلُ عليها. ألوانٌ وموسيقى لها إيقاعُ رميةِ رمحٍ. أجملُ ما في الحصانِ رأسُهُ الشّبيهِ بالأساطير. منابتُ الحوافرِ، حينَ تكونُ دقيقةً ترقصُ الخيلُ عندها مثل الجرادِ. تركضُ الأفراسُ مداواةً لغضبِها، وليس لغرض آخر في الوجود. أجمل ما في الحصانِ مِنخراهُ وهو يلهثُ. العرفُ، وشعرُ النّاصيةِ. أجملُ ما في الحصانِ شيْئُهُ، مرسومٌ بأناةٍ، بإخلاصٍ، بنفاد صبرٍ، بغضبٍ، بجرّةِ قلمٍ واحدةٍ، شعلةٌ ليس يبقى بعدَ الرّواءِ منها رمادٌ. حصاني الكُميتُ ميْتٌ، والقمرُ كان بلون القمر. الحصانُ كلّهُ امرأةٌ. الرجل كلّه حصان. أجملُ ما في المرأةِ صوتُها، كأنما تقوله لنا بلغة الرخام، أو بلغة النهر في ارتعاش النسيم. أجمل ما في الرجل غَضبُه، حين يشتعل مثل النار التي لا تتغيّر، ولا تبدّل لونها. وكانتِ الجياد، والفجرُ على الأبوابِ، جذاذاتٍ من العشبِ تطيرُ في الأثرِ.
جميع التعليقات 1
د.ماجدة سعد
نص يوقده زخم شعري قاتم ومؤثر.