طالب عبد العزيز
المباني المشيدة من الطابوق والاسمنت، والملونة بالحجر والطلاء المستورد تستفز خوفي وخجلي معاً، أنا كائن أليف جداً، إعتاد وأجداده السكنى في القرى منذ أزمنة غابرة،
مخلوقٌ من جذوع وسعف وقصب وتراب لين، وتملأ أذني أصوات حيوانات فقيرة، وهمسات نساء صغيرات، ومناداة فلاحين هادئين، لا يغضبون، على خلاف أصدقائي الذين كنت التقيهم في مقهى ابي صلاح(عبدالله) وسط المدينة، عند مدخل شارع الكويت، من جهة نهر العشار، فقد كانوا اشطر مني، ملاعين صغار، لا يخافون ظلام أزقة وشارع المدينة، يهتدون ودونما دليل الى أيٍّ من مقاهيها، والى دور السينما والبارات والكابريهات فيها، ويسمونها بأسمائها. كم توجست خيفة وأنا أدخلها لأول مرة.. ياه، الآن، يطيب لي أن أتذكر طرمبة السبيل، التي عند نزلة بستان جبار الفدائي، التي اشتراها شاكر مجيد فيما بعد، حيث كنت اغسل قدميَّ حال عودتي من هناك بمائها يوم لم يكن ماءُ الاسالة قد دخل بيتنا بعد. ولكم تصوّر حياة فتى، يحب القراءة والشعر، لم تكن في بيتهم حنفية ماء قبل خمس وخمسين سنة.
لا أجد جدوى في المئات من الكتب التي كُتبتْ عن تاريخ البصرة، هذه المدينة البائسة التي تعيش أيامها بترقب وخوف مما تضمره الأحداث السياسية والامنية لها، والتي يستعجل الفرقاء غرقها بالدم، قبل غرقها الموعود بالماء، في بحر الثلاثين سنة القادمة. تقول الوكالات بأنها ستختفي بموانئها وآبارها، ومنصات تحميل نفطها من الوجود، وأقول حبذا لو أختفت البنادق المستودعة في بيوتها، والتي تفوق عدد أعمدة الكهرباء فيها، وعدد الابقار التي ترعى في حدائقها العامة، وعدد إصابات السرطان التي تفتك بسكانها.
كل الذين كتبوا في تاريخها قالوا بأنَّ عتبة بن غزوان هو الذي بناها سنة 14هجـ وأنَّ أبا بكرة قال: هذه ارض نخل فغرس فسيلها الاول، وأنَّ قصر انس بن مالك، وعيسى بن جعفر، والقصر الاحمر اجمل معالمها، وفيها نهر اسمه الابلة، وأنّها خربت على ايدي الزنج، وأنَّ محافظها سعدي عياش عريم فتح شارع بشار فيها، وانَّ الحرب مع ايران انهت غابات النخل فيها، وأن نفطها يباع بأغلى الاثمان، لكنَّ اهلها فقراء، وأن الماء المالح بات زائرها الاقبح منذ العام 2018 وأنَّ كل ما نريد كتابته يعرفه أهلها، لذا يجدر بنا القول... وأدرك شهرزاد الصباح، وعاشوا عيشة سعيدة.
سأعود إلى طرمبة السبيل التي لم يكتب عنها أحد من قبل، هذا الصنبور النحاسي، قياس ثلاثة أرباع الانج، الذي يأتيه الماء من تانكي باور هوز بالعشار، دونما مضخة، وآلة ميكانيكية أو كهربائية، إنما بناء على فكرة العم باسكال، واوانيه المستطرقة، فهو يقطع أكثر من خمس كليومترات، ماراً بأنابيب من الاسبست، عابراً ضواحي (بريهة ومناوي باشا و البراضعية والسراجي وميتان) ليصلنا ماءً سلسلاً عذباً نشربه، ونملأ الجرادل منه لأبقارنا، ونخزنه في المصاخن (أواني من النحاس) لصباحاتنا، قبل المدرسة، ونستحم به، فتشرق وجوهنا، وتصبح أذرع امهاتنا وشقيقاتنا وبنات جيراننا بيضاء وناعمة، النسوة اللواتي يبقين بانتظارنا، ريثما نغادر، نحن الصبية العائدين من البساتين، قبل مغيب الشموس، والذين تطيّنت أيديهم وأقدامهم بسواقي الباميا والخيار واللوبياء والباذنجان، وعاثت الأتربة والاغبرة بشعورهم، فشعثتها، وجعلتها كأعشاش الغربان، حتى إذا فرغنا من طرمبة السبيل، تقدَّمن لها، تحت جنح الظلام، فغلسن وجوههن وأيديهن وأرجلهن وسيقانهن الى الفخذين، ومنابت الثلث المعطل من البطن، الذي ضنن به علينا، فسالت أودية على النحور، وتقاطعت السبل عند الاعناق والصدور بماء لا أعذب ولا أطهر ولا انقى منه.
ظلت طرمبة السبيل مصدر مائنا الوحيد، حتى منتصف السبعينات، من القرن الماضي، ولما أزاحتها البلدية في توسعة الشارع، ومدِّت الانابيب الجديدة، ظلت مكاناً نشير اليه، في تعريف المسافات، وتقريب الامكنة والازمنة، وفي سرد الحكايات. في بيتنا اليوم أكثر من عشرين حنفية، بعضها بلون الذهب، ومثلها بلون الفضة، نستخدمها دونما شعور بأهميتها، فهي مثل أيِّ قطعة أثاث أخرى، تتقادم وتنوشها يد الزوال.. لكنَّ طرمبة السبيل، التي عند بستان جبار الفدائي، كانت تفيض بمائها على ابناء القرية كلها، لونها النحاسي، واتيانها الماء من باور هوز بالعشار دونما مضخة أو آلة وقدرتها على الايفاء بحاجاتنا، ونقطة التحول في فتوتنا وشبابنا، ياه.. لو أصغينا قليلاً لحديث النسوة، وقد أمنَّ غيابنا، وتلفعن بعباءة الصبر والحياء.
*طرنبة السبيل: حنفية ماء عامة تؤسسها البلدية لمساعدة السكان