حيدر المحسن
كتبتُ عنوانَ هذا الكلام، ولمّا كنتُ أشرعُ فيه لقيتُه منقوشا مرتّين على شاشة الحاسوب. الشّكرُ إذن للشابّ «مارك» أصبح مرتّين، دون أن يكون لي يدٌ في الأمر... «شربل فارس» نحّات وشاعر لبنانيّ من ضيعة صربا في النبطيّة جنوب لبنان، اجتمعنا معا وكانت مضيّفتنا السيدة «سناء» زوجته،
تحت شجرة سنديانة عملاقة في قمة جبل مؤثث بالأشجار العالية، حيث يقع منزل النحّات ومشغله، وفسيح الغابة التي تمتدّ إلى خمسة كيلومترات، تقريبا، وكان البحر من أمامنا، والجبل من الخلف. تحدّثتُ في مفتتح الجلسة عن شاعر أغنية “واشْجابَهْ للغرّاف طير المجرّة”، وكان الشاعرُ مخطوفَ العقل واللُّبّ لأن طائرا يعيش في نهر الغرّاف جاء زائرا إلى نهر المجرّة، وكلا النهرين يقعان في وطن واحد، هو العراق، ليحصل بعدها ما قد حصل. ماذا يقول الشاعر إذن عن لقائنا هذا، طائر (العمارة) وطير (النبطيّة)، وهل يشكر الشابَّ مُبدعَ دنيا “فيسبوك»، أم يؤلّف عنه أغنية جديدة؟
تزدهي ساحات بيروت وصيدا وصور بمنحوتات شربل فارس، تتنفّس الحياة الحرّة من جميع الجهات، ويمرّ بها الناس من جميع الأقوام، ولا يدري أحدٌ من هؤلاء أن الفنّان يعيش في سجن صنعه بنفسه في بيته، فهو يغلق البوابة الواسعة بالحديد، ولا يفتحها إلاّ لمن تصطلي في جوانحهم نارُه، أولئك «القابضين على الجمر» حسب تعبير النبيّ المصطفى، والذين يرتقي فعلهم إلى مستوى «العمل الثوري العظيم»، حسب تعبير جورج أورويل، وتغذّيهم أفكار السلام وحبّ الخير للجميع. إن نحّاتنا شاعرٌ ومفكّرٌ ثوريّ، ولأنه يصنع أغلب تماثيله من الحجر، فقد صرت أتأمله، وكان وجهه وسيعا وناطقا بالهدوء والقوة مثل صخرة من تلك التي تتكوّن منها تماثيله. حدّثني عن صديقه ناجي العلي، عمل له تمثالا بعد جريمة اغتياله، وصار هذا النّصب زينة ساحة تحمل اسم رسّام الكاريكاتير، ثم حدث في لبنان ما حدث، وقامت إحدى الجهات المتحاربة بإعدام التّمثال. وإمعانا في تعسّفهم اختار العدميّون -وهو اسم الأحزاب الدينيّة المتطرّفة، ولا أدري إن كان من عندي أو أني قرأته- رئيسهم ليُطلق النّار من مسدسه على رأس التّمثال المحطّم. من قال بأن تمثال الحجر يبقى بعد زوال المدينة الحجر، عندنا صار يموت التمثال والبشر والشجر، وأمام أنظار العالم أجمع، وهذه عقيدة أهل العدم.
النصب الثاني يحبّه النحّات كثيرا لأنه يخصّ صديقه وأخَ زوجته السيدة «سناء»، وهو المناضل «مازن عبد الكريم»، أطلق أول رصاصة على القوات الإسرائيلية التي جاءت تحتلّ لبنان في الثمانينات. عنوان العمل هو «صرخة الديك: صباح الخير يا بيروت»، الطائر واقف على صخرة يعلن صوته للعالمين، ولا أستطيع هنا نقل صورة كلامية للعمل، لكن صيحة الديك لا ينساها أبدا من تقع عليه عيناه مرة، ولا يغيب عن سمعه أبدا نداء الجهاد ذاك، يأتي من يتأمله من جميع الجهات، ويبقى معه أبدا، ولم يكن هذا كلّ شيء؛ إن ذلك النداء كان سببا في تحرير وطن اسمه «لبنان»، من محتلّ عدوّ ليس له اسم ولا رسم.
العمل الثالث الذي أودّ الحديث عنه خصّ به الفنان بلدي، ويعود إلى امرأة إيزيديّة أشعل أهلُ داعش فيها النار، أطلقتُ عليه عنوانا مختصرا هو «اختلاج». بواسطة النحت العميق، والذي يعمل على السّطح في الوقت نفسه، صوّر الفنّان رفّةً واحدةً تنمو من كعب قدم المرأة، وحتى هامة رأسها. لم تكن الروح هي التي تختلج، لكنه الجسد الفتيّ، وقد تحوّل بفعل النّار إلى وردة عالية وطويلة، لأن الوردة هي امرأة سوّتها الرّغبة في النّقاء والطّهارة زهرة تجمّل المكان وتفتحه أينما حلّت. هل رأيتم باقة ورد تُلقى في النّار؟ قد فعلها داعش في أهل بلدي، فشكرا لشربل فارس لأنه أحيا بواسطة الحجر هذا الفقدان، وهي دعوة للمسؤولين في البلاد لإقامة هذا النّصب في أعلى مكان في كلّ مدينة، كي يراه الجميع ويلعنوا الشرّ في الإنسان.