طالب عبد العزيز
مع أنَّ الرثاثة صفة مستقبحة في المجتمعات إلا أنها أتخذت في بعض أوساطنا الاجتماعية بوصفها (قيمة) لها مرتبة في سلم البطولة، ولعل الاهزوجة التي يقول صاحبها (عالوا بيك يل منك تجي العيلة) تشكيل واضح للمرتبة تلك، وإلا كيف يرتضي المرء لنفسه أن يكون معتدياً، ويفاخر بأنه مصدر الاعتداء، الأمر الذي انسحب على الكثير من صناع القرار السياسي العراقي، ومن ثم الى فئات مجتمعية دنيا، مثل العشيرة والاسرة والشخص، وما المفاخرة به والتنويع عليه إن لم تكن الرثاثة عينها.
صنع صدام حسين إنموذجا سئياً في الحياة العراقية، حين جعل من البندقية وقطعة السلاح جزءاً من البطولة، وجملته(سلاحك شرفك) أسست لنوع من الرثاثة، وانحراف في معنى الرجولة والبطولة، التي تُستبعَدُ فيها جملة المثل والقيم النبيلة، لتحل البندقية محلها، وبذلك استشرى القتل، وتم التشريع له، وتجاوز حدود الحق والباطل إلى القتل لأجل القتل، وبأيِّ صفة جاء، بما انحرفت القيمُ معه بعد العام 2003 وخرجت من حياتنا مفاهيم انسانية مثل المصالحة والصفح ونسيان الماضي، باتجاه التقصي والثأر والانتقام والايغال في القتل. وكلنا يذكر سهولة استئجار القاتل، الذي راح يعرض جهوده للبيع، علناً في الباب الشرقي، ببغداد، وداخل الاوساط الشعبية في مدن عراقية أخرى.
حين تتحول الرثاثة الى مفهوم في البطولة تصبح المشكلة أكثر تعقيداً، لأننا لن نجد من يصغي لنداء العقل والحكمة، وهذا ما يحدث بين الاوساط السياسية التي (تتفادى) القتل في العراق اليوم. الفرقاء المسلحون يسخرون في سرِّهم وجهرهم من محاولات التهدئة، التي ينادي بها قادتُهم، لأنهم يعلمون جيداً بأنَّ النداءات تلك لا تنبع من مفهوم البطولة، فالبطولة والقوة معيارها الرجال المسلحون وعدد البنادق وأطوال الخراطيش، والحكمة تعني الجبن والخور والضعف وانتصار الآخر. كانت القاعدة أن لا يبحث القاتل عن اسباب لفعله فهو يتجاوز القانون الى غايته، لكننا، صرنا نجد بين الاوساط السياسية من يشرعن للقتل والفساد، ذلك لأنَّ مصلحته تقتضي تمرير الأثنين معاً. في معاينة هادئة نجد أنَّ أسباباً كثيرة تجتمع في الذوات تلك، لتنتج لنا نمطاً أجتماعياً يخلص الى أنَّ الفساد نوع من السرقة، ولا يقوم بالسرقة إلا البطل، ولا غرابة في اجتماع الفعلين(السرقة والقتل) في البطل الواحد.
الاقبح من ذلك كله هو التأسيس له، والانكى منه أنَّ موروثنا الشعبي زاخر بالقصص تلك، بعد أن أستبعدت القيم العليا للبطولة والفروسية والمثل لتحل محلها صورة واحدة عنوانها القتل، فالناس في الوسط الشعبي منقادين للبطولة المجردة في صورة الامام علي وهو يحتضن السيف، والى العباس على صهوة جواده، وقد قتل سبعين الف فارس، والى عنترة بن شداد وحروبه من أجل جلب المهر لمحبوبته عبلة، والى صدام حسين وهو يمسك بندقيته البرنو بيد واحدة نهاراً كاملاً، وإغراء الصورة لا ينقطع عند هذا وذاك، إنما يمتد الى أبي مدرعة وأبي أبابيل وغيرهم من المحاربين المحدثين. ما يتأسسُ في مجتمعنا مرعب ومخيف، لأنه يقضي على روح الحكمة، ولغة الحوار، ومحاولة فهم الآخر المختلف، ولينتج لنا صورة دموية للعيش، هي الصورة الاكثر رثاثة في الكون.
ليس من الخوف بشيء أنْ يتحارب الفرقاء المسلحون في الليل، أبداً، فالحكومة أعجز من أن تلجمهم، هم يتحاربون في الظلام لأنهم مهووسون برؤية الرصاص الاحمر، وهو يشق جيب الظلام، ويتطاير في كل الاتجاهات، وليس في عقل أيٍّ منهم أين يقع الرصاص ذاك، وفي أي بيت، أو من يُقتل به، فالقتل زهو، وهو بطولة تتحق، وتتداولها الصفحات الزرق، ووسائل الاعلام، ويتدخل في حلها رؤساء القبائل، وتشكّل من أجلها اللجان الأمنية، ويحار فيها رئيس الوزراء، الذي يتلمس أذنه كلما طارت مسيرة، ولعلع صوت نشيد.
دخلت الرثاثة الأغنيةَ من الباب ذاتها، وتوغلت في النشيد المقدس، فمجدت اقتتال القبائل، وانتصرت لحروب الطوائف، وصراع الكتل على منصات تحميل النفط، وتجارة التهريب، وحيازة المغانم وووو حتى لم تعد لأحد مثلبة في فعل قبيح، وصرنا نرى الجسور القبيحة وهي تفتتح باحتفال وأناشيد وكاميرات، ويرقص الشيوخ ورؤساء الحمايل والافخاذ وذووهم على اهازيج القوالين والمهاويل في افتتاح نافورة باربعة أنابيب وسط المدينة. الرثاثة وتجلياتها هي صورة البلاد اليوم.
جميع التعليقات 2
ام زيد
الرثاثة والغثاثة عنوان العراق اليوم
عدي باش
من تجليات الرثاثة في بلادنا .. هي سيادة (قيم) الجهل و مهارة الحواة !!