ستار كاووش
ما هو الخيال؟ وكيف يُساعد المبدعين على المضي في إنجاز أعمال جميلة وإبتكارِ أشكال لم تخطر في بال أحد؟ كيف يمكن أن يتسلل الخيال في ثنايا أعمالنا ليمنحها تكوينات لا تشبه تلك التي نشاهدها في الواقع؟ لا شيء نقوم به في حياتنا يخلو من الخيال، لكن ذلك يحدث بدرجات متفاوتة، فأنتَ حتى حين تقص حكاياتك على الأصدقاء، تُضيف لها تلقائياً بعض الخيال كي تكون أكثر تشويقاً وطرافة.
وهذا المثال أراهُ جيداً وأنا أتحدث عما يحدث معي أثناء الرسم، حيث يتحول الخيال الى نوع من الفطنة وهو يقترب مني حتى قبلَ البدء بالرسم. نعم يقترب الخيال مني مثل صديق قديم، ويصاحب خطواتي صباحاً فور ذهابي الى مرسمي، وأحياناً يسبقني في الدخول الى المرسم بعد أن يُسرع من خطواته، فيتفحص التخطيطات، وينظر الى الألوان التي تفترش باليت الرسم، وألمحهُ قبل دخولي وهو يتجول هنا وهناك بين اللوحات ويمرر أصابعه على قطع الكانفاس البيض المتناثرة التي هيئتُها للوحات جديدة. وحين أدخل المرسم يرمقني بنظرة ودودة، ويجلس قربي تماماً على الطاولة المحاذية لمسند الرسم، يهز ساقيه بهدوء مثل صبي صغير ويراقبني وأنا أشرع بالرسم. يالخيال هذا الخيال، إنه الصديق الذي يمنح الشخصيات التي أرسمها أجنحة كي تطير في فضاء اللوحات، وهو الذي يُرفرف فوق رأسي بجناحيه مثل طير السعد وأنا جالس أمام مسند الرسم، يُعَدِّلَ لي وضعية هذه المرأة التي رسمتها في هذه اللوحة أو يغير هيئة تلك الفتاة التي بدت بملابس غريبة في عمق غابة متناهية الزرقة، أو حتى يعمد لتفحص البقعة الخضراء التي وضعتها تواً على قماشة الرسم. الخيال هو الذي يحرف الأشكال عن واقعيتها ويمنحها هيئات جديدة غير متوقعة، هو الذي يبتسم لي حين أنجحُ في رسم شكل جديد وأتوصل الى نتيجة باهرة. الخيال يملأ المرسم بتقلباته وأهواءه الجميلة وأنا أتبعه كظله، وأتابعه خلسة كي لا يخرج من باب المرسم ويتركني وحيداً وسط هذا الواقع الذي أحاول الفرار منه مراراً. لذا أعمدُ لإصطحاب هذا الخيال معي في الظهيرة الى صالة البيت الكبيرة لنتحسي القهوة معاً ثم نعود الى المرسم كصديقين يعرفان بعضهما جيداً. ونحن لا يمكن أن نكون سوى صديقين موغلين في القدم، فقد لازمني الخيال منذ أول معرض أقمته في بغداد بقاعة التحرير وسط الباب الشرقي، تلك القاعة التي لم يعد لها وجود الآن مع الأسف، لكني أستعيدها من خلال صور ذلك المعرض -وهذا أيضاً نوع من الخيال- كما أستعيد أطياف التعبيرية التي كنت مهووساً بها، وأتذكرُ خيالات أصدقائي طلاب الأكاديمية الذين حضروا الإفتتاح. أعظم شيء يميز الإنسان هو الخيال، وهو الذي يجعله مختلفاً عن الكائنات الأخرى. فكل ما يمكنك تخيله، تستطيع رسمه على قماشة الرسم، بل إن كل شيء تتخيله يمكنك تحقيقه في الواقع، وكل الاختراعات والإبتكارات في العالم بدأت بالخيال، لتصبح حقيقة فيما بعد.
العزلة هي التي تُكَرِّسُ الخيال عادة وتكون مصاحبة له، لذا يتوحد الفنانون أغلب الأحيان مع أعمالهم وينعزلون صحبة المواد التي يستعملونها، لإبتكار أشكال جديدة بعيداً عن إحباطات الحياة وضغوطاتها، فهذا هو الخيار الأمثل للفنان كي يمضي مع شخصياته المتخيلة وأجواءه البعيدة عن الواقع. هنا يكون الخيال هو الملاذ الجميل والودود للفنان وفيه يجد الراحة والإنسجام مع ما ينجزه من أعمال فنية أو إبتكارات في مجاله الإبداعي الذي يمارسه. أنا كفنان أبحثُ عن معادل تشكيلي لما أراهُ حولي، وهنا يلعب الخيال دوره العظيم ويفتح لي باب الحرية والإنعتاق من إنتكاسات الحياة وقسوتها أو حتى عبثيتها. وفي أشد لحظاتي حيرةً، ينبثق الخيال أمامي مثل يدٍ حانية، تَرْبِتُ على كتفي وكإنها يد ملاك حارسٍ للجمال، يَهِبُني نعمته المشرقة، ويجعلني أنهض وأمضي نحو آفاق مفتوحة الى الأبد.