TOP

جريدة المدى > عام > د. جمال العتابي: الناقد عندنا لم يحترف بعد حرفة النقد، وهناك خلط في مفهوم النقد

د. جمال العتابي: الناقد عندنا لم يحترف بعد حرفة النقد، وهناك خلط في مفهوم النقد

نشر في: 10 أكتوبر, 2022: 11:44 م

انصرفت للخط في الصحافة مما أفقدني فرصة عظيمة في أن أكون أحد الخطاطين المهمين

 

حاوره/ علاء المفرجي

ولد الكاتب والناقد التشكيلي د. جمال حسن العتابي 1946 في الناصرية في العراق، له حضور ليس في المشهد الثقافي حسب، بل في السياسي والاجتماعي على حد سواء..

ينتمي العتابي الى عائلة وطنية وسياسية يسارية، كان لها الدور البارز في المشهد السياسي، حيث قدمت شهيدا في محراب العمل الوطني، ونالها ما نالها من القمع والعزل في زمن الديكتاتورية. اختار منذ طفولته الأدب والفن، متأثرا بوالده الشخصية الوطنية والسياسية المربي حسن العتابي.

عمل في الصحافة مصمماً وخطاطاً منذ نهاية ستينات القرن الماضي، حتى الوقت الحاضر، شارك في العديد من المؤتمرات وورش العمل والندوات الثقافية والفنية، وكان عضواً في اللجان المنظمة.

شغل منصب المدير العام لعدد من الدوائر في وزارة الثقافة العراقية، منذ عام 2003 ومنها دائرة الفنون التشكيلية.

أصدر عددا من الكتب منها: (مدن الضفاف العراقية)، (كلمات متقاربة المدى)، و( افق مفتوح..مقالات نقدية في السرد)، ( داخل المكان..المدن روح ومعنى)، (المثول أمام الجمال..قراءات في النقد التشكيلي).

 الناصرية المكان الذي تغذت منه عائلتكم التي كان لها دور وطني على مدى أكثر من ستة عقود، ما هي المصادر والمراجع التي الهمت شخصيتكم في النشأة الأولى؟

- تعود بي الذاكرة الى الغازية إحدى قرى (لواء المنتفـك) الناصرية حالياً، الطفولة والدراسة الابتدائية كانت في تلك القرية، لم تشكّل الناصرية في ذاكرة صبي شيئاً يذكر، عدا تلك الصور التي تثير دهشته وهو يرى الكهرباء والجسور والطرق المعبّدة والنساء السافرات ويدخل السينما لأول مرّة، لا يغادره طعم (الكاهي) لحد الآن، تلك الصور كانت أشبه بالطلاسم لطفل قادم من الغازية، يتوسل أبيه أن يأخذه معه في أثناء مواسم مراجعة مديرية المعارف في الناصرية التي يدبّ في أوصالها الغزل حين يمرّ بها الفرات، بدأت أدرك أن زيارات أبي (حسن العتّابي) إلى الناصرية بعد تموز 58 تأخذ طابعاً آخر، يلتقي بعض الشخصيات لأتساءل مع نفسي عن سر الساعات الطويلة لهذه اللقاءات، أذكر من هؤلاء: المدرس عبد الرزاق مسلم، العامل النقابي عبد الصاحب حمادي، افتتح فيما بعد (مكتبة الوعي) في مركز المدينة، باقر شناوة، شهاب أحمد التميمي، طالب حنون، طعمة مرداس، عبد جياد، عبد الحسين الغالب، وآخرين، اتضح لي أن المجموعة كانت تشكّل قيادة تنظيم الحزب الشيوعي في المدينة، باستثناء (الغالب) المحسوب على الوطني الديمقراطي.

كان أبي يعود محملاً بالجرائد والكتب والمجلات، تثيرني صور اللحى على أغلفتها، يدفعني الفضول في تصفحهها ، ما كنت أحسب أن تكون هذه الكتب مصدر وعينا وثقافتنا بعد عقود من الزمن، وتصير عبئاً أحياناً حين (يلزمك) المسؤول الحزبي بقرائتها، وتقديم عرض لها في اجتماع قادم، تتحول القراءة حينذاك الى قيد ثقيل نتهرب منه، وطالما كانت هذه الكتب تأخذ طريقها إلى تنور أمي كلما تتصاعد حملات القمع وهمجية الأنظمة الديكتاتورية، لتستهدف المعرفة والعقل وحملة الكتاب في مقدمة أعدائها.

في نهاية أربعينات القرن الماضي كان الوالد معلماً في قرية الدوّاية شمال شرق الشطرة، التي شهدت افتتاح أول مدرسة ابتدائية، القرية مجموعة أكواخ تبدو كالمقابر تناثرت على تربة لزجة لايحيطها سوى أعواد البردي والقصب المتيبسة، كل ما يحيط بالمكان يوحي بالأنين والأسى تشاء الصدف أن يجتمع فيها نخبة من المعلمين خريجي دار المعلمين الريفية، التي كانت معهداً فريداً في اعداد معلمين متسلحين بمهارات ثقافية وتربوية ورياضية، هذه النخبة وجدت في تلك البقعة عالماً يتسع لأحلامهم الكبيرة ، ولاسيما بعد اندحار النازية والفاشية بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا يعتقدون أن الاشتراكية ستنتصر في العالم كله، وتسود العدالة الاجتماعية والحرية فيه، من هناك كان أبي يراسل الصحف في العاصمة ويكتب باسم مستعارهو( ابن الربذة)، كانت السعادة تغمرهم بعدالة القضية والرسالة التي يؤدونها.

في عام 1951 ينقل الوالد معلماً الى مدرسة الغازية، متواصلاً بمساره التربوي والفني، تنضج تجربته في التشكيل، في بيت طيني بدأت أشم فيه لآول مرة رائحة الألوان والزيت وقماش اللوحات، قدّم الوالد أعمالاً في غاية الجودة والجمال، شارك في معارض الرسم التي تقيمها مديريات المعارف بأعمال ومواد مختلفة، كان يحنّط الطيور والحيوانات الأليفة، ويصنع أعمالاً جبسية كمصغّرات لمشاريع الري في العراق، تعلّم الخط العربي وأجاده، حفظ الشعر وكتبه، غالباً ما أعود اليه في أي إشكال لغوي أو نحوي أقع فيه فيصحح خطأي ويقوّم عبارتي، نال أكثر من جائزة في معارض المدارس، وحقق تقدماً في أكثر من ميدان إبداعي.

في هذا العالم الجميل والثراء الروحي الذي شيده أبي ورعاه بيده وعقله ووجدانه، كنت بدأت أتهجى الأحرف الأولى وأتعلم منه، أحاول أن أقلّده، أسير على خطاه، مثلما فعل أشقائي من بعدي، في البيت كانت بضعة رفوف من خشب تضمّ مجموعة من الكتب والمجلات تشكّلت بنواة صغيرة ثم بدأت تزدهر، كانت البداية في القراءة، عرفت المنفلوطي وجبران خليل جبران، وجورج حنا، عباس العقاد، طه حسين ، علي الوردي، وسلامة موسىـى وعبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ، وتصفحت مجلات ( العلوم، الأديب، المختار، الرسالة، أهل النفط، طبيبك، الهلال)، وأشدّ ما نال إعجابي تلك الكتب صغيرة الحجم من سلسلتي ( إقرأ وكتابي)، بموضوعاتها المتنوعة والميسّرة، كان إلى جانب هذه (المكتبة) الصغيرة جهاز راديو من ماركة (سيرا)، يعمل ببطارية جافة ثقيلة يصعب عليّ حملها، في الليل كنت أشارك أبي سماع الأغاني المصرية، يسهر لساعة متأخرة من الليل مع حفلة أم كلثوم الشهرية، لايكتفي بذلك بل يدّون كلماتها في مفكرة جيب خاصة به، أسماء لم اسمع بها من قبل: أحمد رامي، السنباطي، عبد الباسط عبد الصمد.

في أحداث العدوان الثلاثي على مصر(حرب السويس)عام 1956، سمعت لأول مرة صوت المذيع المصري أحمد سعيد المدوّي، وخطابات جمال عبد الناصر التي كانت تلهب المشاعر، وتثير حماس الشعب، وخطاب نوري السعيد الذي اختتمه بـأهزوجة (دار السيد مامونه)، كما يدقّ في أذني للآن رنين ساعة (بكـبن) من اذاعة لندن ونشيد (الله أكبر) من اذاعة صوت العرب، الذي ما انفك يرعبني ويلاحقني مرادفاً للانقلابات العسكرية (العراقية والعربية).

في الغازية أكملت الابتدائية، في مدرسة مديرها صبري فرج والد الفنان التشكيلي الراحل محمد، المدير نموذج للتربوي الأنيق، الصارم، متعدد المواهب، والقرية تقع على ضفاف الغراف بامتداد جميل ومستدير، وساحل رملي يطوقها بنصف دائرة، يتسع مداه في الصيف، كانت مثل مدن الجنوب تكتظ بأشجار النخيل، تتوقف عندها المراكب والسفن، ليس في ليلها سوى فوانيس شاحبة، أماسيها جذلة، تشمّ فيها رائحة التراب المنقوع بالماء، قمة ما يتمناه تلاميذ المدرسة سفرة الى سد (البدعة) على نهر الغراف، كأنها مخلوق من الرقّة والشوق والابتهال، الأراضي المحيطة بالسدّ تستقبلنا كأنها مصايف رطيبة الظلال، على أعتاب السد يبزغ فجر القوارب، وهو في هيبته درب للمياه الجميلة، في مقدمه تتدفق المياه عافية وزهوراً،هذا المشهد يلازمني في أبعد بقعة داكنة في العالم.

صبيحة الرابع عشر من تموز58 تستيقظ الغازية على صوت مذيع لا يشبه الأصوات المعتادة ليعلن نهاية العهد الملكي وبداية العهد الجمهوري، الحدث كان كالعاصفة ، الغازية الوديعة صارت (النصر)، ومن يومها كان تاريخنا سلسلة من الهزائم، وما أصاب العراق من صراعات سياسية وحزبية، لحق هذه المدينة الصغيرة، فزحف لها فايروس التناحر السياسي ومزّقت نسيجها الاجتماعي، قوى سياسية مشتبكة، مصالح متضادة، أجهزة النظام الأمنية تؤجج الصراع ، فئات متضررة تشعل الحرائق، وشهدت السنوات الأولى للعهد الجمهوري (الزاهر) مقدمات التراجع عن الأهداف السياسية المعلنة، ومنها الحريات العامة، وانهاء فترة الإنتقال نحو نظام برلماني ديمقراطي، فيما كانت الأجهزة الأمنية تلاحق ( قوى الثورة) ومناصريها، وتدفع بهم الى المعتقلات والسجون بدعاوى كيدية وشهادات زور في اتهامات باطلة، تضع في معاصم مناصريها الأصفاد، عرفت بعدها مسالك الدروب التي تؤدي الى السجون في بداية كل شهر، يلازمني شعور بجفاف الروح وعذاب الأسئلة عند كل زيارة لأبي في السجن، لأول مرة رأيت الشاب السجين فخري كريم، كان في مقتبل العمر تحيط به عائلته في باحة السجن.

 انتقال العائلة الى العاصمة شكل انعاطفة في حياتك المهنية والسياسية، حدثنا عن ذلك؟

- البداية الحقيقية في تشكّل الوعي كانت بعد انتقالنا الى بغداد عام 1901 ودراستي في متوسطة الفجرالتي كان الشاعر الخالد مظفر النواب مدرساً فيها، ثم بداية انغماري في العمل الطلابي ضمن تنظيمات اتحاد الطلبة العام، إحدى واجهات تنظيمات الحزب الشيوعي، أعتقلت لعدة أسابيع ( في عهد الزعيم) وأنا طالب في الصف الرابع من اعدادية الكاظمية، لأننا مجموعة المؤيدين للقائمة المهنية في انتخابات نقابة المعلمين عام 61 كنا في حشد قريب من مركز انتخابي، فالقوا رجال الأمن القبض علينا، يوم كانت الانتخابات صراعاً حاداً بين قوى سياسية متناحرة، وهروات الشرطة تلهب ظهور المعلمين المشاركين في الانتخابات.

أتاح لي السكن في مدينة الحرية فرصة التعرّف على نخبة من الأصدقاء كانت المقهى عنوان خصوبة المدينة وثرائها، لأنها ملتقى من الشباب الحالمين بوطن معافى، يوقدون الضوء في عقولهم ويودعون في الكتب أسرارهم وحكاياتهم ، يستريحون في كتف مقهى الساقية لأن مشاريع ثقافية ستولد من هناك، وحين يكون الوطن مطارداً وممزقاً ومضاعاً، تلتم تلك الأسماء لتسهر على بقايا صفحات الكتب وتعلّق أحزانها على مشاجب مقاه اخرى، أذكر من أصدقائنا اؤلئك : منهل العارضي، عبد المنعم الأعسم، حاتم الصكر، أحمد خلف، حميد الخاقاني، رياض رمزي، عبد الأمير الحبيب، نصر محمد راغب، باقر مسير الزيدي، رشاد هاشم، موسى فنجان الساعدي، موفق الشديدي.

تتحول مقهى الساقية الى ملتقى واسع يأتيه جمعة اللامي، فوزي كريم، جهاد مجيد، عبد الستار ناصر، جمعة اللامي، مقداد عبد الرضا، عبد القادر العزاوي (قدوري العظيم)، موفق محمد، تقودنا الخطى بعدها نحو ساحة عدن قبل أن يزحف عليها الخراب ليروي لنا الشاعر زهير الدجيلي الحكايات والشعر ويوقظ فينا الأحاسيس عن سنوات سجنه.

وفي مقاهي بغداد كنا نلتقي جمهرة الأدباء والمثقفين والفنانين من جيلنا، ابتدأنا فيها رحلة البحث عن الكتاب، ومتعة اللقاء بالناس الذين يقرأون، هذه الرحلة كانت كفيلة بأن تدبّ فينا حياة ما، لا ندري كنهها الحقيقي، لاننا لم نجرّب غيرها، لم تتسن لنا مقارنتها بغيرها، خليط كنا، يجمعنا ويوزعنا الهوى واللهو، نضحك ونكتوي، ندخل إلى يفاعتنا من بوابة المشاكسة وارتكاب البراءات، نجد الجو غير ملائم تماماً لصبواتنا فنقذف به الى خارج أسوار كلية التربية، نهتف، نواجه، نردد النكات البذيئة، نواجه الرصاص أيام اضراب طلبة الجامعة احتجاجاً على الغاء نتائج الانتخابات الطلابية أيام حكم عارف الثاني عام 1966 بعد فوز مرشحي اليسار في أغلب الكليات، كانت النتائج انذاراً لقوى أخرى كي تقفز الى السلطة بانقلاب جديد في تموز عام 1968.

ترافقت البداية الأولى لعملي في الصحافة مع الأعوام الأخيرة للستينات، في مجلة صوت الطلبة مع موفق محمد ورضا الأعرجي وخالد الشطري وعبد القادر العزاوي وسامي الموصلي وزهير النعيمي وقيس الحديثي وآخرين، ثم كانت محطتي الثانية في مجلتي، منذ أعدادها الأولى وفيما بعد في مجلة المزمار، انصرفت للخط في تلك المؤسسات الصحفية، وبسبب هذا التوجّه افتقدت فرصة عظيمة في أن أكون أحد الخطاطين المهمين في العراق بعد أن تمكّنت من ضبط قواعد الخط العربي بمران طويل وفي وقت مبكر منذ دراستي في الأعدادية، أقول هذا ولدي شعور بالأسف على هذه الخسارة.

 متى كانت البداية مع الكتابة؟

- لم أمارس الكتابة في تلك السنوات، بل انصرفت للعمل في هذا الحقل في أكثر من مكان، فضلاً عن عملي اليومي الذي يقتضي أن أبكّر صباحاً في الذهاب الى الفلوجة للتدريس في متوسطة الجمهورية، وأعود في اليوم نفسه، إنما الكتابة بدأت في أعوام التسعينات في زمن الحصار الصعب، بدأت أحفظ نصوصاً عن المكان والسير الشخصية، وقراءات نقدية للعديد من الكتب، لكنني أخذت عهداً على نفسي أن لا أنشر في المجلات والصحف أنذاك، وتلك كانت وسيلتي أن لا أكون تحت الأضواء، ولطالما كانت أجهزة النظام تمارس هيمنتها وتفرض شروطها على الكتاب والمثقفين والفنانين، في أدلجة الحياة الثقافية لصالح المؤسسة والسلطة، في ظاهرة شكلت طابع الثقافة العراقية لعقود من الزمن وهي واحدة من أعقد الأسباب في انتكاستها.

تمّ تفصيل الثقافة بصورة عامّة، والأدب على قياسات ومضامين محددة يتخذ من (أوامر السلطة وخطابها) أساسه ومعياره، كما يصف عباس خضر المرحلة تلك في كتابه ( الخاكية)، ويتحدث عن طريقة خلاصه بالهروب الى الهلوسة والطلاسم وكتاب السحر شمس المعارف الكبرى، أكثر من الأدب، أما أنا فوجدت ملاذي في (الفن)، هربت إليه في تصميم وخط المطبوعات من صحف ومجلات وكتب .

 تزامن عملكم في الصحافة وانشغالكم في دروب النضال، في جريدة الحزب (طريق الشعب) .. حدثنا عن تجربتك هذه خلال السبعينيات. واذكر أهم الأسماء التي شاركتكم هذا الانشغال؟

- في الفترة المزدهرة من حياة الشباب يبدو كل شيء ممكناَ، في هذه المرحلة ثمة تدفق في العروق يحمل طاقة الحياة كلها، واكتشافاً للدنيا من جديد، في نهاية الستينات عادت مجلة الثقافة الجديدة إلى الصدور، كنت مع الشاعر الفريد سمعان ومن ثم شمران الياسري نقضي أوقاتاً لإكمال صدور العدد شهرياً ومتابعته في المطبعة، وضع الفنان محمد سعيد الصكار الأسس الأولى لتصميم المجلة وسرت على خطاه، محطتي الأخرى ومنذ العدد الأول كانت جريدة الفكر الجديد (الأسبوعية)، صاحب امتيازها الدكتور حسين قاسم العزيز، ويرأس تحريرها فخري كريم، انضم لكادرها الصحفي والثقافي : فائق بطي، عبد الرزاق الصافي، شمران الياسري، محمد كريم فتح الله، محمد الملا كريم، خالد الحلي، الى جانب المصمم حسام الصفار، وفي وقت متأخر أنضمت سلوى زكو لفريق العمل وأوكل اليها الاشراف العام على الجريدة غير منقطعة عن الصدور، حتى مداهمة أجهزة أبنية الجريدة ومطبعة الرواد، عندما بدأ رثاؤنا للنفس ورثاء ما كان عليه الزمن، وحرمنا أنفسنا من (نعمة الجبهة!!).

المحطة الأهم في تجربتي الصحفية (الفنية) كانت في جريدة طريق الشعب، التي شغلت الطابق الثالث من عمارة مواجهة لسينما أطلس في شارع السعدون، فيها كانت البداية، المكان كان مقراً لقيادة الحزب بعد الإعلان عن قيام ( الجبهة الوطنية)، كانت الاستعدادات سريعة لإصدار العدد التجريبي للجريدة، الذي وضع تصميمه وخطّ ترويسته الفنان محمد سعيد الصكار، كنا فريق القسم الفني بادارة ليث الحمداني قد أخذ على عاتقه مهمة تنفيذ الخطوات الفنية والطباعية طيلة سنوات صدور الجريدة، ولاشك أني تأثرت باسلوب الفنان الصكار وحاولت أن أقلّد الفنان صادق الصائغ، شهد القسم مشاركة قصيرة لبعض التشكيليين في الأعداد الاولى من صدور الجريدة وهم يحيى الشيخ، خالد النائب، عزيز النائب، وكان شقيقي سامي نموذجاً متقدماً على زمنه في التصميم والاخراج الصحفي، كان أكثر تميزاً وجمالاً بما منح الجريدة موقعاً طليعياً في صدارة الصحف اليومية من حيث الشكل وكمية المطبوع، كان الى جانب سامي عدد من الفنانين والرسامين أذكر منهم: مؤيد نعمة، الشقيقان عفيفة وفيصل لعيبي، نبيل يعقوب، محمود حمد، يوسف الناصر، مصطفى أحمد، عبد الرحمن الجابري، ابراهيم رشيد، حميد عبد الحسين، فلاح حميد، صائب العاني، صفاء حسن ( أبو الصوف)، حسين العلّاق، عبد علي طعمة، الخطاط لؤي غائب، قيس قاسم، وفي المونتاج الفلمي بيمان سعيد، نجم عبد المفرجي، عفّان جاسم، علي الجبوري، انتشال هادي، ثائرة فخري، منى سعيد، جابر سفر، وفي قسم التصحيح، جمعة الحلفي ومظهر المفرجي، وذياب كزار، وعريان السيد خلف. كانت الجريدة بفضل هؤلاء وأخرين لا تسعفني الذاكرة لأستعيد أسماءهم، عملاً فنياً صادقاً، ودرساً في الجهد والمثابرة له أسبابه المقنعة.

كانت أحلامنا تجرفنا نحن مجموعة الشباب نحو التفاؤل والحيوية، لا مجال فيه للحزن والإحساس بالكآبة، ومن دون شعور بلحظة الصدمة، ولا توقعات بما سيحصل من مفاجآت في المستقبل، كنا مستغرقين بالعمل بسر السعادة والحب وتخطي الصعوبات، نكتشف معاني جديدة رحبة في أداء رعيل من الصحفيين والسياسيين والمثقفين بظل وارف يتسع مع أحلامنا ومشروعاتنا، في الجريدة تعرفت على هؤلاء: من بينهم عبد المجيد الونداوي، صفاء الحافظ، رشدي العامل الذي اطلّ من خلال الجريدة ككاتب سياسي لامع ومن الطراز الأول وشاعر بالطبع، فكانت الجريدة أشبه بالعالم الفسيح الذي ينتظره، وليس من منافس للجريدة في حكايات (أبو كاطع)، وكتابات مصطفى عبود، وصادق البلادي، وحميد رشيد، وقاسم عجام، وأمين قاسم، وصادق الصائغ، كانت التجربة بمضمونها وجوهرها طريقاً أرقى نحو تطوير مهاراتنا الفنية والصحفية، كان الى جانب هؤلاء جيل آخر ينتمي الى الحماسة والصخب، لكن تجربته اكتملت ونضجت في أجواء (طريق الشعب)، وأكدت العقود اللاحقة أن الجريدة قدّمت أسماءً مهمة تصدرت المشهدين الثقافي والفني، إذ وجدوا فرصتهم الحقيقية في التعبير عن قدراتهم الإبداعية ببراعة ورهافة احساس، وأكدوا تميزهم في ميادين العمل، وتطورت خبراتهم بمرور الزمن.

تلك سنوات ظلت تنبض باسلوب وسحر جديدين، وإيقاع روحي يعيد الصياغات بطعم فريد لمجاميع تلتقي بانسجام مذهل ورغبة أكيدة ومعلنة بوضوح كافٍ، لم يرتكب صانعوها خطيئة ما لتنهبهم المنافي فيما بعد، أو يأكل الدود الأجسام الغضّة منهم، كنا قد وقعنا في ( كمين التحالف)، ودفعنا الثمن باهظاَ.

تجربة الجريدة كانت مثل ومضة عابرة، لكنها لم تنطفىء، بأهلها الباقين على قيد الحياة، نرنو لهم بأبصارنا، نريد لها أن تعيد لنا صبانا وشبابنا، فزمن الصدفة يعصر قلوبنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram