TOP

جريدة المدى > عام > إنعام كجه جي وأحلام المغتربين

إنعام كجه جي وأحلام المغتربين

نشر في: 11 أكتوبر, 2022: 11:52 م

شريف هاشم الزميلي

للدكتورة لاهاي عبد الحسين دراستها الرصينة والمهمة في كتابها (من الأدب الى العالم) * معتمدة في ذلك إلى أواصر العلاقة بين ما أنتجه المبدعون من قصص وروايات وعلم الاجتماع،

عبر دراسة مَن ترى فيهم بوصلة أمينة تؤشر بدقة وحرص إلى ما في الحياة الاجتماعية العراقية، من مساحات ظلّ قاتم يشكل أَرَضة نهمة تقضم ما تيسر لها ممّا في تلك الحياة من مساحات نور.

وممّن تناولتهم تلك الدراسة، الروائية المبدعة إنعام كجه جي التي أثْرت الفن الروائي، برواياتها: (طشّاري, النبيذة, سواقي القلوب و الحفيدة الأمريكية) وأخذت مكانها بين المبدعين ممّن اختارتهم (الباحثة). « لأن رواياتها تنسجم وغرض الدراسة التي تتعقب حال المجتمع العراقي عبر قرن من الزمان … ولدت (كجه جي) في بغداد / الكراده عام ١٩٥٢، تخرجت من قسم الصحافة في كلية الآداب/ جامعة بغداد عام ١٩٧٤، عملت في مجال الصحافة والإعلام التلفزيوني في العراق، وتواصل نشاطاتها الصحافية والروائية حتى اليوم خارج العراق … ولعل أهم ما يميزها كروائية أنها على الرغم من مغادرتها العراق منتصف ثمانينيات القرن الماضي للدراسة أولاً، والاستقرار في فرنسا ثانياً فإنها لم تفقد روح الانتماء للعراق والتواصل معه « ص٣٣٥

تتميز الروائية بواقعية في اختيار عناوين رواياتها، بما يوفر للقارئ فرص تفكيكها على وفق ما يتمثل فيها من موحيات تشي بما هو مقدم على متابعته، ومثال ذلك روايتها (طشاري) حيث « تأخذ هذه الرواية عنوانها من واقع التشتت التي عانت منه الطبيبة النسائية (وردية) … نتيجة لظروف حرب ٢٠٠٣، وما أعقبها من اضطرابات أدت بالكثيرين ومنهم المسيحيون إلى الهجرة… بحثاً عن فرصة آمنة للحياة « ص ٣٣٧

إلى جانب واقعيتها في طرح مضامين رواياتها تستنفر جرأتها للكشف عن الواقع المرّ الذي يعيشه العراقيون من خلال طرح نقيضه الذي رأته في الغربة متمثلاً بـ «مشهد حضور الطبيبة المتقاعدة (وردية) احتفالاً دعا إليه الرئيس الفرنسي (ساركوزي) في قصر الأليزيه على شرف بابا الفاتيكان (بنديكتوس). تملكتها الدهشة وهي تنظر مشاهد الحفاوة والاحترام الذي حظيت بها. مرت ببالها صورة نقيضة استلتها من بلادها، يظهر فيها العساكر بأسلحتهم… ونظراتهم التي تقدح شرراً «. ص٣٣٧

جاهدت (وردية) أن يكون مسار حياتها وردياّ كاسمها، أن تسعى الى كل ما يعزز وجودها إنسانة في محيطها، مهما تنوعت أطيافه. « شاركت مع زميلاتها في التظاهرات الشعبية … مديرة المدرسة ومعلماتها يمشين في الصفوف الأولى … يشاركن الطالبات الهتاف … في المدرسة التي درست فيها أربع طالبات مسلمات و مسيحيتان و(١٧) طالبة يهودية كان النسيج الاجتماعي على سجيته، لم تفسده السياسة… كانت تستقبل صديقاتها المسلمات واليهوديات على السواء، للتهنئة بعيد القيامة «. ص٣٣٩

أن تكون (وردية) جادة وحريصة وجريئة ومتميزة، ذلك يعني أن تسعى إلى تحقيق أحلامها، وها هي ذي تمارس « عملها كطبيبة في الديوانية بعد تخرجها من كلية الطب العراقية عام ١٩٥٥… كانت أول امرأة تمشي في شوارع المدينة بدون عباءة… ينهض الباعة احتراماً، و يفسح الصبية وأصحاب عربات الحمل لها الطريق… يتهامسون: ها هي الدختورة الجديدة». ص٣٤٠

تسلم (الباحثة) بوعي منها رواية ما حدث بعد التخرج، وما فيه من كشف للواقع الصحي آنذاك، إلى (وردية) التي « تصف المستشفى … أنها «اسطبل»… الردهات مثل سوق شعبي، في كل منها عشرة اسرّة يقيم فيها عشرون مريضاً، نصفهم يرقد على الأرض، أما مجاري المياة فمسدودة تعوم فوقها النفايات _ كما _ تلاحظ أن الرجال كان يحضرون المستشفى فقط عندما يصلهم خبر ولادة مولود ذكر «. ص٣٤١

هذا الواقع البائس لا يمتّ إلى الصحة بصلة، إن عليها أن تبدأ بأمر ينبغي أن ينال اهتماماً استثنائياً يتمثّل بتأمين مكان خاص مؤهّل إنسانياً لاستقبال الوافدين من المواليد الجدد. وهذا يعني _ كما ترى الباحثة_ « أن تخوض (وردية) نضالاً من أجل ردهة خاصة للولادة … يتم الإتفاق على تخصص قطعة أرض لبناء الردهة، تتولى الدكتورة توفير المستلزمات من بغداد… افتتحت الردهة بحضور المتصرف وقائد الفرقة العاشرة وعدد من الضباط، وبعض شيوخ العشائر، ترصد الروائية بحسها المرهف كيف أن هؤلاء الرجال أطلوا على الردهة الجديدة وعيونهم في الأرض… وتعلّق: غرفه التوليد لا يجوز خرق حرمتها حتى لو كانت فارغة «. ص٣٤٢

لا شيء يبقى على حاله ، لابدّ من التغيير ، وليس له إلا أولئك المتحمسون له، الساعون إليه فكانت ثوره ١٤ تموز، وما أفرزته من أحلام، تغيّر كل شيء، ولكن لا كما في متخيلة الحالمين وفي مقدمتهم (وردية) التي « تنظر إلى ثورة تموز على أنها سجلت البداية لانقلابات حصد فيها الثوار بعضهم بعضاً، تقول: ترفع الثورات شهداءها وتخسف بخونتها الأرض، ولا تُبقي ولا تذر. ثم تدور العجلة وتنقلب المرحلة فيصير الخائن شهيداً، ويذهب الشهيد إلى طاحونة الصور «. ص٣٤٤

هذا التناقض يتجلى في الساحة العراقية على الرغم من وجود ما يشير إلى بوادر صفاء تمثلت في « التآخي بين الجماعات المتعددة تجسد ذلك بطالبات المدرسة وهن يرتدين الأزياء القومية للجماعات التي يمثلنها كالعربية والكردية والآشورية… من جانب آخر تسجّل للضغط الذي يمارسه النظام السياسي على كل المشتغلين للمشاركة في احتفالاته المتتالية «. ص٣٤٥

لم تكن (كجه جي) روائية فحسب بل كانت مؤرخة توثق ما يدور في الساحة العراقية من أحداث وتستقرئ الوقائع، وما يمكن أن يتمخض عنها من صراع تسجله (الباحثة) عند « ظهور أول منظمتين نسائيتين سرعان ما دخلتا في صراع، كان انعكاساً للصراع القائم بين تنظيمات سياسية ذكورية، تمثل الأول بالحزب الشيوعي، فيما تمثل الثاني بالنظام السياسي الذي يقف على مسافة من الأول … طُلب منها أن ترأس منظمة نساء الجمهورية في الديوانية… حاولت التملص ولكنها لم تفلح _رغم _أن هناك ما صنع الحداد بين رابطة المرأة العراقية التابعة للحزب الشيوعي العراقي من جانب، ومنظمة نساء الجمهورية المدعومة من الحكومة من جانب آخر «. ص٣٤٦

لم يكن على بال (وردية) أن تكون في موقع كهذا لم يكن ضمن حساباتها وهي التي لا حلم لها سوى أن تكون وفية للمهنة التي اختارتها وأوقفت حياتها عليها، وكما تذكر الباحثة: « لم تكن (وردية) سعيدة بذلك بل كانت ترى فيه عبئاً عليها… تحررت من هذا النشاط السياسي المفروض بعد انقلاب ١٩٦٣ حيث لم يقترب منها أحد بما في ذلك البعثيون خلال فترتي حكمهم « رغم أنهم كانوا يطاردون حتى صراصير المجاري «. ص٣٤٧

في الظروف الاستثنائية التي أعقبت انقلاب ١٩٦٣ لم يكن أمام (وردية) سوى الالتحاق بركب اللاجئين الذين سبقوها. « كانت – وهي- الطبيبة الثمانينية ضمن مجموعة اللاجئين العراقيين الذين وصلوا بقرار استثنائي …حشروا في شقق تحوم فيها حشرات اتخذت من الأسرّة والبطانيات بيتاً لها. اضطرت إلى وضع الكمامة لتتحمل استخدام المصعد للوصول إلى الطابق الحادي عشر الذي تقع فيها شقتها «. ص٣٤٧

كانت (وردية) بين جموع اللاجئين (كالمستجير من الرمضاء بالنار) ذوت روحها المتوثبة وخبت أحلامها وهي تعيش خيبتها تلك الخيبة التي تجسدها الروائية بإحساسها المرهف بين أولئك « الذين اختاروا لسبب ما الهجرة… يتحولون إلى مجرد رقم ضمن حشود المتقدمين … وهذا ما حصل مع الطبيبة (وردية) ، قبلت فكرة الهجرة إلى كندا للالتحاق بابنتها الكبرى الدكتورة (هندة) بعد أن توزع الأبناء كل تحت نجمة «. ص٣٤٨

لم يكن قبول اللجوء سهلاً، ثمة معايير ومتطلبات على طالب اللجوء الالتزام بها وقد «طلبت السلطات الكندية أن تجري فحوصات طبية للتأكد من سلامتها وأهليتها، إنّ عليها أن تقوم بذلك في عمّان، وليس في العراق بسبب ظروف الحصار، ولأن لدى السفارة الكندية_ في الأردن _ أطباء معتمدين تلتقي ابنتها (هندة) التي جاءت من كندا وولدها الذي جاء من الدارنمارك، وتصبح عمان محطة للأحضان والقبلات والدموع بين الأمهات المقيمات والأبناء المنفيين ويأتي بعد طول انتظار قرار السفارة بالرفض مبررين ذلك بحاجة صاحبة الطلب لتغيير مفصلي الركبتين «. ص٣٤٨

إن على الدكتورة (هندة) السعي لدى السلطات الكندية إلى قبول طلب والدتها وهي الخبيرة بمداخلات تلك السلطات وما لها من يد بيضاء في معالجة الكنديين وقد نجحت في مسعاها بعد أن « تعهدت بأن تجري لوالدتها عملية الركبتين على نفقتها الخاصة وأرفقت كشفا بحسابها المصرفي «. ص٣٤٩

إنها الهجرة وما يتناسل فيها من أوجاع وخيبات وما تجره العائلة العراقية من أدواء اجتماعية اختزلته الروائية (إنعام كجه جي) ، بـ: « أقارب أغراب « في إشارة منها إلى انهيار نمط العائلة التقليدية نتيجة الانتشار في أكثر من مكان «. ص٣٤٩

تواصل الروائية سردها أوجاع المغتربين بلغة موحية ولوحات مميّزة، تكشف عن مهارتها في بث ما في صدور الموجوعين الباحثين عن ملاذ

تلك هي سيرة الدكتورة (وردية) من خلال السرد الواقعي الرصين، حرصت الروائية (إنعام كجه جي) على نقلها بأسلوبها البانارومي الذي يشف عن روائية إنسانة.

أما ابنة الدكتورة (وردية) ، الدكتورة (هندة) وزوجها (سلام) فلهما حكاية بدءاً من حرب الكويت عام ١٩٩١ حتى الهجرة إلى كندا. وهذا ما سأتركه للقارئ متعة وفائدة، فله هو الآخر فطنته لاستقصاء ما فاتني مما لدى الروائية من صوت فريد وفراسة وإحساس مرهف.

*لاهاي عبد الحسين / من الأدب إلى العالم / دراسة في علم اجتماع القصة والرواية /للفتره ١٩٢٠-٢٠٢٠ دار الشؤون الثقافية العامة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram