TOP

جريدة المدى > عام > ظمأ لاينتهي وينبوعٌ لايجف .. القراءة صارت صراعاً يومياً مع فيضان المعلومات

ظمأ لاينتهي وينبوعٌ لايجف .. القراءة صارت صراعاً يومياً مع فيضان المعلومات

نشر في: 11 أكتوبر, 2022: 11:56 م

لطفية الدليمي

جرّبت الروائية الايطالية إيلينا فيرانتي Elena Ferrante، مؤلفة الرباعية النابولية، كتابة مادة صحفية أقرب لعمود أسبوعي في صحيفة الغارديان البريطانية ذائعة الصيت.

وفّرت لها الصحيفة كل أسباب الدعم والانتشار، ومن ذلك مثلاً نَشْرُ مادتها الاسبوعية كل يوم سبت، وهو يوم عطلة أسبوعية يتشجع فيها المرء على القراءة. لم تتحمل فيرانتي الكتابة أكثر من عام واحد (هو عام 2019) ، وأنهت ذلك الواجب الاسبوعي بكتابة مقالة أخيرة أبدت فيها السبب الذي دفعها للإنكفاء عن فعل الكتابة، وفحوى ذلك السبب أنها إعتادت مكابدة فعل القلق والترقب والانتظار عقب نشر كل رواية جديدة لها، وهو مايحصل كلّ بضع سنوات تكون خلالها منصرفة للكتابة من غير ضغوطات معيقة ؛ أما الكتابة الأسبوعية لها في صحيفة عالمية فكانت أشبه بكابوس لم تعُد تطيق تبعاته ؛ إذ ماأن يُنشَر لها عمود جديد حتى تقع فريسة عبئين إثنين: ملاحقة ردات أفعال القرّاء على مقالتها، والتفكير بمقالتها الجديدة في الأسبوع اللاحق. ليس ثمة من فسحة للاستجمام الذهني والاسترخاء النفسي أبداً مع أي شكل من أشكال الفعاليات الثقافية الأسبوعية المكتوبة للصحافة.

جالت بخاطري المعاناة التي أسهبت فيرانتي في وصفها وأنا أقرأ المادة اليومية التي دأب على كتابتها الأستاذ (سمير عطا الله) في (الشرق الأوسط) منذ خمس وثلاثين سنة ! ! ، والأمر ذاته يحصل كلما قرأت المقالة اليومية للأستاذ علي حسين في (المدى). أكادُ أقولُ – بيقين - أنّ كتابة المقالة اليومية لكاتبٍ من شاكلة سمير عطا الله أو علي حسين هي بعضُ أسباب سعادته في هذه الحياة ؛ ولعلها السبب الأكبر لها. الكتابة خزّان سعادة لاينضب لمن عرف مسرّاتها وقدراتها الحقيقية والميتافيزيقية، وهي بهذا الوصف تصبح عند بعض البشر قرينة الوجود الانساني النبيل والمكتمل. تساءلتُ: ماالذي يمكن أن يقوله كاتبٌ بعد عمر كامل قضاه في الكتابة؟ والأمر الأكثر أهمية: ماالذي يمكن أن يقوله كاتب على نحوٍ يومي منتظم لعقود طويلة؟ تبدو لي الكتابة الحقيقية - والمعرفة بعامة - مثل نبع ماء أزلي كلّما شربنا منه إزددنا ظمأ ورغبة في إستكشاف المجهول. لاالظمأ يخفُّ ولاالمعرفة تتضاءل ولاالشغف يخفت، ورقعة المجهول تزداد اتساعاً وبعثاً للرهبة في عقل الكاتب والقارئ معاً.

يختصُّ الكاتب (عطا الله) بخصيصة قدرته على تمرير رسائل ثقافية واستراتيجية شديدة الاهمية في سياق مقالة يومية مكتوبة بخفة ورشاقة تضمران دسامة وثقلاً معرفياً لايخفى على القارئ. لنلاحظ مثلاً هذه العبارة التي وردت في متن مقالته الموسومة (في الطريق إلى جدّة: حفظ الآداب) :

«... فالرئيس الأميركي في الطريق إلى جدة سوف يكتشف أنّ العملاق الآسيوي قد تجاوز جميع المخيلات. ثلاثية عجيبة من أكبر دولتين في العالم، الصين والهند، وبينهما سنغافورة، أصغر دول العالم. سوف تصرف أميركا خلال 8 سنوات 1. 2 تريليون دولار على البنية التحتية. فكم هو الرقم في الصين خلال عام واحد؟ 2. 3 تريليون دولار. مثل آخر: قبل 20 عاماً لم يكن لدى الصين شبكة قطارات سريعة، الآن تملك شبكة توازي في حجمها ثلثي شبكات العالم أجمع..... “

إنّ قراءة مثل هذه المعلومة تستوجبُ عند القارئ الشغوف مراجعة الادبيات المنشورة بشأن سباق القوى الموصوفة بِـ (القوى العظمى) في ميادين شتى منها: البنى التحتية والذكاء الاصطناعي وسباق الفضاء والروبوتات،،،، إلخ ؛ ولك أن تتصور كيف سيكون الحال إذا ماإستوجبت قراءة مائة مقالة من مقالات (عطا الله) مراجعة مائة عنوان لكتاب أو مادة بحثية علمية أو تاريخية أو إقتصادية؟

أحالتني مقالة (عطا الله) المذكورة أعلاه إلى كتاب عنوانه (القوى العظمى للذكاء الاصطناعي: الصين، وادي السليكون، والنظام الدولي الجديد *) ، كتبه كاي – فو لي Kai – Fu Lee أحد مطوري الأعمال الصينيين ورئيس معهد للذكاء الاصطناعي. راق لي عنوان الكتاب فاعتزمتُ استزادة المعرفة عنه في موقع (أمازون) الرقمي العالمي. صارت معاينة الإصدارات الجديدة من الكتب - بالنسبة لي، ولكثيرين أمثالي - عذاباً بمثل ماهي لذّة عظيمة: يذهبُ أحدنا لموقع الأمازون لقراءة ملخّص تعريفي Preview عن كتابٍ ما ومعاينة محتوياته ؛ فإذا به يعلق في سلسلة لانهائية من كتب يرى الموقع أنها تشترك مع الكتاب المطلوب في طبيعة موضوعها، وقد حصل معي كثيراً أن بدأتُ بعنوانٍ محدّد لكتاب، ثمّ إنتهيتُ بكتبٍ لم يخطر ببالي يوماً أنني سأراجعها، وتتعاظمُ آثار هذه الظاهرة عندما يكون المرء مهتماً بحقول معرفية عديدة، وتتضاعف المعاناة أضعافاً مضاعفة إذا ماكانت للمرء إهتمامات ترجمية كبيرة ومتعددة الجوانب.

ليست بعيدةً تلك الأوقات قبل عقودٍ عدّة عندما كنّا نقاتلُ - حقاً كنّا نقاتلُ ! - للحصول على كتابٍ ورقي جديد يعزز معرفتنا وكنوز مكتباتنا. كنّا نبذلُ الكثير من الوقت والمال عن طيب خاطر لنحصل على كتاب وبخاصة إذا ماكان عنوانه يفتح لنا منافذ المعرفة الرفيعة التي لانرتوي من منابعها، وليست قليلةً تلك الكتبُ التي سعينا للحصول على نسخة منها عبر مكاتبة بعض الأصدقاء، وكم كنّا في تلك السنوات نسرع كل بضعة أيام لتفقّدِ صناديقنا البريدية بلهفة متوقّعين العثور على كتاب سمعنا به وأحببناه.

تغيّرت هذه الحال اليوم بفعل الثورة الرقمية وصارت طيوفاً قابعة في ذاكرة الأمس. ليس هذا غريباً ؛ فكلّ ثورة تقنية تأتي بطائفة مستجدّة من الخبرات فيما تجعلُ بعض الخبرات السابقة خارج نطاق التداول البشري. إذا أردتَ اليوم قراءة كتابٍ ما في أيّ حقل معرفي فلاتحتاجُ لأكثر من الذهاب إلى موقع أمازون الأكثر شهرة في العالم، ثمّ تطلبُ عنوان كتابك، وإذا أتيحت لك خدمة الدفع الالكتروني فسيكون الكتاب في حوزتك بعد ثوانٍ من تسديد قيمته، وهي قيمة عادية في كلّ الأحوال ولاتثقلُ جيباً أو تخلّ بميزانية شهرية. هذه بعضُ حسنات الثورة التقنية لمن أدمنوا القراءة ؛ لكنّ هذه الحسنة الجميلة لم تأتِ خالية من بعض المنغّصات التي تقترنُ بكلّ الثورات التقنية. أساسُ المنغّصات هنا يكمنُ في الوفرة التي حلّت بعد شُحّة مديدة.

ماذا بوسع المرء أن يفعل إزاء هذه المنغّصات وقد صارت حقيقة واقعة؟ علّمتني خبرتي المتراكمة أنّ أفعالاً بسيطة يمكن أن تفيد في مواجهة تسونامي الكتب الرقمية:

أولاً: عندما تعتزمُ قراءة كتاب تحبه إنسَ أمر المواقع الرقمية (بما فيها موقع الأمازون). الحرصُ على إجتناء أعظم فائدة من كتاب واحد تحبه أفضلُ من تشتيت الوقت في قراءات تعريفية مبعثرة أو قراءات سريعة مختصرة لكتب عديدة.

ثانياً: لاتدع الوفرة تقتل الشغف ؛ فتكون كمن جاع دهراً ثمّ وجد نفسه أمام مائدة شهية حافلة بأطايب الطعام فماعاد يدري ماذا يأكل وكم يأكل؟ وصار يخاف أن تقتله التخمة. الموت من وفرةٍ أعقبت جوعاً قديماً هو أسوأ أنواع الميتات لأنها ميتةٌ غير ضرورية ولا واجبة.

ثالثاً: غصةٌ كبيرة يختنق بها المرءُ عندما يدرك أنه سيغادرُ هذه الحياة وهو لم يقرأ الكثير من الكتب التي أصبحت مُتاحة له والتي حلم بقراءتها في أزمنة ماضيات. تلك حقيقة مؤكدة لدى كل عاشق حقيقي للكتاب ؛ لكنك لستَ وحدك في هذا الأمر. معظمُ سكّان العالم من القارئين الشغوفين يشاركونك هذا الشعور المؤلم ؛ لكن ليس من المجدي إضاعة جمال اللحظة الحاضرة في توجّع نوستالجي يفسدُ ثراء الحاضر. هذا هو حال التطور التقني الذي يأتي في مواقيت محسوبة لانستطيع لها تغييراً بفعل التمنيات، ثمّ إنّك في النهاية أفضلُ حالاً من تلك الملايين الكثيرة من نظرائك البشر الذين غادروا الحياة بفعل عدوى بكتيرية يمكنُ اليوم علاجها بتكلفة يسيرة وجهد طبي يوجد في أفقر مناطق العالم.

* * *

سيبقى سحرُ الكتاب في المملكة الألكترونية التي نعيشها ؛ لكنّ شكل وعنفوان هذا السحر وطبيعته تغيّر في جوهره بسبب الوفرة. الوفرة بَرَكةٌ بالتأكيد، ولاينبغي أبداً أن نجعل من هذه الوفرة عبئاً تنوء به عقولنا.

* عنوان الكتاب باللغة الانكليزية (مع دار النشر وتأريخ النشر) هو:

Ai Superpowers: China, Silicon Valley, and the New World Order , Mariner Books , 2018

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram