TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: هل زرتَ بيت الجاموس؟

مرساة: هل زرتَ بيت الجاموس؟

نشر في: 11 أكتوبر, 2022: 11:58 م

 حيدر المحسن

كانت الشّمسُ تصعد وفي الهور رائحةُ بردٍ وشفيف ندى. ثمة دعسةُ ضوءٍ على أرض الصريفة تشيع الدّفء في الجوّ. بخفَّة قطّ عبرتْ جاموسةٌ نزقةٌ باحةَ البيت. أدخلتْ رأسها عنوة في خِسفةٍ في حائط الصريفة. تشمّمتْ دعسةَ الضوء.

لصقتْ حنكها بالأرض، ونفختْ على التّراب. لبرهة، كانت تتأمّلُ ذاتها في حاجات الصريفة. كلّ شيء هنا يشبهُ نفسَه. موقدُ الحطبِ. كوزُ الفخّارِ. المجرشةُ. قُفّةُ الخوص. البساطُ والغطاءُ الصوفيّ المبخّر العَطِر. في نظرةٍ عميقةٍ وبعيدةٍ حدّقتِ الدابّةُ في ما وراءَ المكان. اطمأنّت، ثم مضغتْ اللاّشيء ولاكتْهُ. وبعد أن تركتْ من ضوعِها الكثيرَ. انسحبتْ.

أكثر من عاشر الجواميس من شعرائنا هو صاحب الطائر الخشبي، حسب الشيخ جعفر. وهو في بلاد الثلج، موسكو، تحضر معه الجواميس التي تخوض الماء ضحضاحا، ويبقى الزنبق الواسع في أعناقها. كتب قصيدة يشبّه فيها الفتاة التي معه في البار: «ترى هذا الفم المبتلّ بالخمر وأصباغ النساء أتراه أرضعته درّها الجاموسةُ الغرّاء؟ » زادُ الحياة صار زاد الحبّ والخمرة والشعر. في تلك الليلة يسهر الشاعر مع رائحة الجاموس، ويحضره الصّمت الذي يسبق حضورها. يسير صمتها الكثير معه، ثم يتوسّد الشّاعر غيمة من حليبها كي ينام. في شفوفِ المياهِ العذبةِ، كلُّ شيءٍ مقدّسٌ، حتى الوحش! هل زرتَ بيت الجاموس؟ وهذه نصيحتي لك: حتى لو تكلّمتَ بصوتٍ خافتٍ. حتى لو لزمتَ الصمتَ العميقَ. حتى لو تماهيتَ شبحا. حتى لو اختفيتَ. في بيتِ الجواميسِ ابقَ مستنفراً!

يذكر ألبرتو مورافيا في “رسائل من الصحراء” قصة رجل كينيّ خبير بالجواميس، ويعرف مسالكها ونفسياتها معرفة دقيقة. لكنه اقترف خطأ قاتلا بسبب وهم خطير ألمّ به إذ أطلق النّار على جاموس، وكان يحسبه يهاجمه. فلما سقطت الجاموسة على الأرض اقترب الرجل منها إلى درجة كبيرة. إلا أن الوقت كان لا يزال مبكرا كما اتضح، فقد استجمع الحيوان آخر قواه ونهض فجأة ثم أناخ بكامل جثّته على الرجل. بعد ذلك وجدوهما ميّتين معا، وكانت حولهما بركتان من الدماء، صغيرة وكبيرة. يؤيد الجاحظ هذه الحقيقة عن قوّة الجاموس الخارقة في كتاب الحيوان: «والجاموس أجزعُ خلق الله من عَضّ جِرجسةٍ (بعوضة صغيرة)، وأشدّه هرباً منها إلى الماء. وهو يمشي إلى الأسد رخيّ البال، رابط الجأش، ثابت الجنان».

لا تسير الجاموسة مثل بقيّة الدّواب. إنّها تتهادى. تمرّغتْ في الوحلِ، وصار لونُها وحليّاً. ثم طافتْ في النّهرِ، وصارَ لونُها مائيّاً وأسودَ. أنتَ رأيتَ تينِكَ العينينِ ـكان ذلكَ في بدايةِ الخريفِ، ونورُ الغروبِ كان مسموعاًـ نظرتْ إليّ، أنا واثقٌ أنّها نظرتْ إليّ، وكانَ في عينيها شررٌ يشبهُ شررَ الإعجابِ، وأنا كنتُ لا أستطيعُ إلاّ أن أقلّبَ الطّرفَ فيها، أيّ إلهٍ صوّرَ أهدابَكِ الكثّةَ، صوّرَ الشّعرَ الوحشيًّ الفاحمَ، الذّوائبَ، الجبهةَ الطّلْقةَـ الجبهةُ، حَسْبُ، معجزةٌـ كنتُ أرى وجودَها الحارّ، وأحسُّ بأنّ هواءً مختلفاً يدخلُ صدري، وكانَ أنّ قرنَيها أمسكا، بغتةً، بيَ، أطبقا على قلبي. كيف يمكنني الفرارُ من هذا الحُبّ؟

قال الشاعر: “فعزيتُ نفسي واجتنبتُ غوايتي وقرّبتُ حُرْجُوجَ العشية ناجيا” الحرجوج: الناقة الطويلة، الناجي: السريع. يشبّه الشاعر ناقته بالثور الوحشيّ، وهذه صفاته: «مروحاً إذا صام النهار، كأنما كسوتُ قتودي ناصعَ اللّونِ طاويا» مروحا: ذا مرح. صام النهار: طال. القتوت: عيدان الرحل. طاويا: ضامرا. «شَبُوبا، تحاماه الكلاب تحامياً هو اللّيثُ، معدوّا عليه، وعاديا» الشبوب الذي يخرج من بلد إلى بلد، وقيل هو المسنّ. تحاماه الكلاب، لشراسته وسرعته، فهي تَتَّقيه إن عَدَتْ أو عدا عليها، فهو كالأسد في شدّته. يُنسبُ هذا الوصف في كتاب (أمالي المرزوقي) إلى الشاعر جران العود النميري، بينما يعود به صاحب (شعراء الواحدة) إلى الشاعر سُحيم عبد بني الحسحاس من قصيدة مطلعها «عُميرةَ ودّع إن تجهّزتَ غاديا كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا”.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد المطلبي

    مقالة دسمة ..تحياتي لكم دكتور

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram