طالب عبد العزيز
ظلتْ الهوّة عميقةً بين ما نعرفه عن الثقافة الغربية وما يعرفه الغربُ عن ثقافتنا، ولا يمكن مقارنةُ ما يعرفه المثقف العربي عن شكسبير وإيليوت ورامبو ودستوفسكي وغيرهم وما يعرفه المثقفُ الغربيُّ عن المتنبي والسياب ونجيب محفوظ وأدونيس وغيرهم، مع يقيننا بأنَّ المنتج الثقافي العربي المكتوب بلغتنا لا يقلُّ شاناً عن المنتج الغربي المترجم اليها، ترى أين تكمن الاسباب؟
كانت الثقافةُ الاسلامية والعربية بخاصة مقصداً للقارئ الغربي، ومثاراً لرغبته في المعرفة، وسبر أغوار الشرق، وذهب المستشرق الغربي الى ابعد من ذلك، فتعلّم العربية، وقرأ آدابها، وتشربت روحه بها، وما فعلته الف ليلة وليلة، وكتب المتصوفة أكبر من أن يؤشر ذلك، فصار البحث عنه سمة الحالمين، الذين أغواهم الشرق، وانجذبوا لضوئه، فكانت الاخيلة تحترق شوقاً لقراءة القصص وكتب الشعر وخلاصات الفكر.. ولنا في (الليالي العربية) أكثر من دليل، لكننا، بتنا نجد عزوفاً منهم عن قراءة المكتوب العربي الحديث، ولم نشهد الحماس ذاك. ترى هل تشبّع القارئ الغربيُّ بما كان مدهشاً عندنا ذات يوم، وأخذ كفايته، واستنفد ما بين يديه منه؟ أم أنَّ المنتج العربي اليوم لم يرق الى المنزلة تلك، أو لم يتمكن من تسويق مادته، بوصفه الامتداد لذاك الارث العظيم؟
تقول فاطمة المحسن في كتابها التأسيسي(تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث) بأنَّ “النهضة الادبية والفكرية في العالم العربي والاسلامي نتاج الاصلاح الديني” وأنَّ “سؤال النهضة كما طرح قبل ازيد من قرن ونصف في العالم العربي، تغيَّر باتساع افق الترجمة، وتشعّبِ قواميسها، ودخول جيل من الدارسين من ثنائيي اللغة”. وهذا مدخل يدلنا على الفسحة الضيقة للاصلاح التي قامت في ثقافتنا، التي لم تخرج عن حدودها داخل (الاصلاح) الديني، القناة الضيقة، التي لا تسمح إلا بنفاذ اليسير من التحولات، فالمؤسسة الدينية ومنذ وجودها إنما خلقت لتحكم قبضتها، وما تهيأ للنخب عبر الترجمة لم يكن كبيراً، إنما راوح بين قوسي المسموح والمُحذَّر منه، واستمر على الحال هذه طويلاً، وواضح أنه ظلَّ احادياً، حيث لم ينقل من لغتنا الى اللغات الاخرى إلا القليل منه، فيما اتسعت دائرة الترجمة من اللغات تلك الى العربية، وشملت معظم ما أنتج هناك.
وفي العودة الى أسباب ومحدودية انتشار المنتج العربي الى لغات العالم، فنحن لا نعتقد بأنَّ ما ينتج اليوم أقلَّ شأناً مما انتج في الماضي، ولم تفقد العربية بريقها، أو تهن قدرتها، على الاتيان بالهام والضروري والجميل، شانها شأن أيِّ لغة حيةٍ في العالم، تستمد أهميتها من عدد الكتاب والمفكرين والأدباء، الذين يكتبون بها، والذين قدَّموا خلال العقود الاخيرة ما نفخر ونعتز به، ولو تتيح الورقة الصغيرة هذه ذكر الاسماء الكبيرة لما وقفنا على رقم بعينه، لكنَّنا نرى أنَّ لغتنا ربما كانت عائقاً، فهي صعبة عند غير العرب، وشائكة في نحوها وصرفها وبلاغتها ومجازاتها، وذهبت دعوات التحديث الى غير رجعة، بسبب من هيمنة الديني عليها، ولعل أكبر الاسباب يكمن في عدم وجود مؤسسة عربية واحدة تأخذ على عاتقها ترجمة المنجز العربي، وتسويقه الى لغات العالم، وهو المشروع الذي تعمل عليه المؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية في العالم، فضلاً عن عدم الاستقرار في انظمتها السياسية والاجتماعية، واضطرار النخب المثقفة فيها الى الهجرة وغير ذلك.
لم تفلح الجوائز السخية التي تنشط في الخليج بخاصة برسم هوية واضحة، لما يكتب بالعربية، فهي الاخرى ارتجالية، وتقدَّمُ بناء على اهواء خاصة، ونوايا مضمرة، ظلت بحدودها المعلومة، أسيرة مؤسسات قاصرة على استيعاب فكرة الوصول الى العالم، وأهمية انتشار المطبوع العربي خارج حدوده اللغوية.
من وجهة نظر تقليدية، لم يكن السياب شاعراً عالمياً، وكذلك أدونيس وسعدي يوسف، ولم يكن نجيب محفوظ روائياً عالمياً ولا عبد الرحمن منيف ولا فؤاد التكرلي ولا ابراهيم الكوني ولا غيرهم من الشعراء والكتاب والفنانين.. وهذه نظرة قاصرة بكل تأكيد، بحسب معايير العالمية نفسها، فهؤلاء لا يقلون شاناً عن مؤلفي عشرات الكتب التي نقرأها منقولة لنا عن الانجليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية والروسية والبرتغالية وغيرها. بل وبينهم من يستحق الصدارة، وبكل ثقة وجدارة، مقارنة باسماء بعض النوبليين، الذين ترجمت أعمالهم الى العربية، وسُوّقوا لنا بوصفهم خلاصة العالم.