اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: أمالقَسْوَتِنا من نهاية ؟

قناديل: أمالقَسْوَتِنا من نهاية ؟

نشر في: 15 أكتوبر, 2022: 11:52 م

 لطفية الدليمي

الباشا سندرسن شخصية محورية في تشكيل تاريخ الدولة العراقية . تلك حقيقة لايمكن نكرانها أو الالتفاف عليها. عمل السير هاري سندرسن منذ دخوله ضابطاً طبيباً إلى العراق في الحملة البريطانية عام 1914 مسؤولاً عن شؤون الطبابة فيه ،

ثمّ أوكلت إليه مسؤولية الاشراف الطبي على الملك فيصل الأول. فضلاً عن كلّ هذا ساهم الرجل مساهمة جوهرية في تأسيس ( الكلية الطبية الملكية العراقية ) وجعل مناهجها الدراسية متوافقة مع مناهج ( غلاسغو ) الاسكتلندية، وكانت بشهادة كلّ المدققين في تاريخ التعليم الطبي واحدة من أرقى التجارب التعليمية الطبية في العالم .

نشر الباشا سندرسن مذكراته باللغة الانكليزية عام 1972 تحت عنوان ( عشرة آلاف ليلة وليلة Ten Thousand and One Nights ) ، وقد أحسن صنيعاً الاستاذُ سليم طه التكريتي عندما ترجم هذه المذكرات إلى العربية عام 1980 ؛ فهي ليست مذكرات شخصية وحسب بقدر ماتضمُّ من إشارات إلى بدايات تشكيل الدولة العراقية والمعضلات التي ترافقت مع ذلك التشكيل الشاق منذ 1918 حتى مغادرة سندرسن العراق عام 1946 .

ظلّت حاضرةً في ذهني، ومنذ قراءتي الأولى لهذه المذكرات، حادثةٌ أشار إليها سندرسن . قال أنه قبل تشكيل الدولة العراقية عام 1921 بسنوات ( ربما 1919 على ماأذكر ) عُهِدت إليه من بين وظائف كثيرة وظيفةٌ لطالما أبغضها وعدّها واجباً ثقيلاً على قلبه : حضورُ عمليات الاعدام والتصديق طبياً على وفاة المعدوم . يضيفُ سندرسن أنه طُلِب إليه أحد الايام السفرُ فجراً إلى الحلّة لحضور واقعة إعدام عراقيّ إرتكب جريمة قتل بحقّ مواطن عراقي آخر . عندما وصل سندرسن موقع الاعدام في السجن لم يستطع أن يجد لأقدامه موطئاً من شدّة الزحام؛ فقد تجمّعت منذ ساعات الفجر الأولى حشودٌ غفيرة من العراقيين كانت تتزاحمُ فيما بينها لغرض الحصول على موطىئ قدم يتيحُ لها إستراق النظر إلى المعدوم من لحظة بدء مصارعته الموت وحتى لحظة الموت المؤكّد بعد أن يصير جثة باردة . يعلّق سندرسن على هذه الواقعة ، وبكلام مغلّف بدبلوماسية محسوبة لاتخفى على القارئ، أنه برغم تقديره العالي للقيم العراقية فإنّ هذا التقاتل على رؤية شخصٍ – حتى لو كان مجرماً مستحقاً الموت - تُزهَقُ روحه في ساعات الفجر الأولى بقي أمراً غير محبب تختزنه ذاكرته عن الشخصية العراقية .

أظنّ أنّ سندرسن باشا كان مصيباً في رؤيته؛ فقد تكرّر ذلك المشهد الذي رآه في الحلة بمشهد موت جماعي آخر عقب عقود عدّة . الشخصية العراقية مجبولة على القسوة . سيظنّ البعضُ أنّ تلك القسوة مخصوصة على الآخرين. كلا، الشخصية العراقية قاسية حتى على نفسها وأهل بيتها ، ومظاهر تلك القسوة عديدة : يعنّفُ الرجل طفله الصغير في الشارع، يصفعه صفعات عدّة وهو لاينفكّ يقول له : أريدك رجلاً ، والطفل يبكي ولايعرف ماالذي يحصلُ له . الشيء ذاته يحصل في المدارس عندما يتفنن المعلمون في صفع تلاميذهم، والغريبُ أنّ هؤلاء التلاميذ بعدما يكبرون يعيدون سرد وقائع تلك الصفعات، بمازوخية مأزومة، ويحسبونها هي التي صنعت منهم رجالاً أشداء في مواجهة الحياة بصلابة . لم يفكّرْ هؤلاء في الوجه الآخر من المعادلة : ربما جعلت منهم تلك الصفعات كائناتٍ خطيرة تختزنُ مناسيب مفجعة من المأزومية التي تخرّبُ حيواتهم وحيوات آخرين يشاركونهم العيش بحكم الضرورة المجتمعية ( الاسرة مثلاً ) أو الوظيفية ( المدرسة أو دائرة العمل مثلاً ) . نحنُ إزاء عقول خطيرة Dangerous Minds تماماً مثل تلك التي يحكي عنها الفلم السينمائي بالعنوان ذاته. ربما تكون الأمثلة التي مررتُ عليها أمثلة على القسوة ( الخشنة ) لأنها مقترنة بفعل عنفي مشهود على الأرض؛ لكنْ ثمة أمثلة على قسوة ( ناعمة ) ، غير مرئية ، لايدرك تفاصيلها الخفية سوى الشخص ذاته. عندما ننهضُ صباحاً بوجوه عبوسة ، وننسى أنّ الموسيقى العذبة والكلام الجميل – مُغنّى كان أم غير مُغنّى – وكوب الشاي الصباحي ،،،، وأفعال صغيرة غيرها هي تسابيحُ شكرٍ واعترافٌ منّا بجمال هذا الوجود الانساني – برغم كلّ بشاعته التي لن نتغافلها – فنحنُ حينئذ نقترفُ أفعال قسوة ( ناعمة ) حتى لو كانت بحقّ أنفسنا ولم تَطَلْ آخرين سوانا .

يكتبُ الشاعر الراحل ( مظفّر النوّاب ) في ( القدس عروسُ عروبتكم ) ، مخاطباً نوعاً مخصوصاً من القساة :

الآن أعرّيكم

في كلّ عواصم هذا الوطن العربي قتلتمُ فرحي

لاعلينا من لغة الخطاب السياسي المباشر ، ولندققْ في عبارة ( قتلتم فرحي ) . يبدو لي أنّ كثرةً منّا لاتعرفُ من خبرة مميّزة في هذه الحياة سوى قتل بذرة الفرح في نفوس الآخرين ، والتلذذ المرضي بهذه الفعلة الآثمة . الواحدُ من هؤلاء لن يجد راحة إلا عندما يسمّمُ حيوات الآخرين مثلما سمّم حياته بإرادته أو بأفاعيل آخرين ، وهو بهذه الفعلة يخاطبُ نفسه ( ليشرب الآخرون من كأس المرارة التي شربتها ) . هو لايعرفُ أنه بهذا الفعل يستزيدُ من خراب حياته . هاكم مثالاً ربما إختبره كثيرون منّا : تنشرُ مادة فيسبوكية تشي بفرحك – ليس بالأمر ذي الدلالة أن يكون فرحك مؤسساً على خلفيات حقيقية أو وهمية -، وبعدها ستجد البعض لايرتاحون إلا بعد أن ينغّصوا عليك فرحتك. يتركون الأصول ويتعلّقون بذيول الأشياء . يدورون في مسارات مغلقة . لايبتغون شيئاً سوى تنغيص فرحتك ؛ فتلك مسرّتهم الكبرى . ماذا بعد ذلك أيها السادة؟ لاشيء سوى تكريس الخراب في نفوسهم التي قوّضتها مفاعيلهم أو مفاعيل سواهم .

القسوة - بحقّ النفس أو بحقّ الآخرين ، وسواءٌ أكانت خشنة معلنة أم ناعمة مضمرة – هي جنون يلتهمُ أعمارنا القصيرة ويتركنا نضيعُ في متاهات الكراهية العمياء . الحياة أثمنُ من هذا الجنون ؛ فلماذا نخسرها في أفعال ليس لها ثمارٌ منتجة ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram