ستار كاووش
رسمَ الكثير من الفنانين بورتريهات لهم أو لأشخاص غيرهم، لأسباب فنية، شخصية، نفسية أو حتى توثيقية. وبما إن الفن في شكلٍ من أشكاله، هو النظر الى الأشياء بطريقة مختلفة، لذا هناك فنانين نظروا بطرق غير متوقعة وربما غريبة للبورتريهات أو لشخصيات الناس الذين رسموهم، حتى بدوا كإنهم قد إبتعدوا تماماً عن النماذج التي هم بصدد رسمها،
فخرجت لوحاتهم صادمة ومحيرة، لكنها رغم ذلك تحمل تعبيرات غير تقليدية، وقد أمسك هؤلاء بروح الشخصيات بطريقة فريدة وغير متوقعة، طريقة نراها بسيطة وعابرة في ظاهرها، لكنها ماكرة وتدعو للكثير من التساؤلات، وقد قلبوا المعادلة التي يعتمد عليها رسم البورتريت، فتخلّوا عن وجه الإنسان، وإنتقلوا الى الجهة الأخرى تماماً، حيث توقفوا عند الحذاء. نعم، لقد أمسكَ الكثير من الرسامين بإحذيتهم أو أحذية غيرهم، ليعبروا من خلالها عن الحالة النفسية للنموذج الذي أمامهم، وحاولوا الوصول الى ما يختبيء خلف هذا النوع من الأحذية أو ذاك النمط من الجزمات. قد يبدو الموضوع غريباً، بل غريب جداً، لكنهم فتحوا بذلك نافذة جديدة نطل من خلالها على الشخصية المرسومة، حتى نكاد نعرف عمر الموديل أو العمل الذي يمارسه وحالته الاجتماعية أو المادية من خلال هيئة أو طراز الحذاء، فهذا يعود لمزارع وذاك يرجع لعامل بناء والآخر لفنان بوهيمي، وحتى يمكننا تمييز إن كان صاحبه غنياً أم فقيراً. وحين نتطلع الى تاريخ الفن جيداً نرى إن هناك رساماً واحداً إتكأ عليه الكثير من الرسامين فيما بعد عند تناولهم هذا الموضوع، وهو فنسنت فان خوخ الذي رسم أحذيته مراراً وتكراراً للتعبير عن حالاته النفسية. وعلى طريقة (كلنا خرجنا من معطف غوغول) يمكننا القول هنا، إن كل الأحذية التي رُسمت خلال المائة سنة الأخيرة خرجت من أحذية فنسنت فان خوخ. وقد تناول هذا الموضوع في الرسم فنانين مشاهير من طراز رينيه ماغريت وأندرو وايث ويوبي هاوسمان وغيرهم. ورغم كثرة الرسامين الذين تناولوا هذا الموضوع، فقد إستوقفني الفنان الألماني هورست جانسن (١٩٢٩-١٩٩٥) الذي رسمَ الأحذية كثيراً، وكان فناناً غزير الإنتاج، تنوعت أعماله بين رسم اللوحات والحفر على الخشب والطباعة الحجرية، كذلك تصميم الملصقات، حيث تأثر في بداياته بأعمال الفنان إدوارد مونخ، وخاصة في لوحاته التي رسمَ فيها الحيوانات وبعض ما رسمه حول موضوع الرجل والمرأة. ثم تأثر بالفنان أوسكار كوكوشكا، لدرجة إنه قام بتسمية أحد أعماله (أوسكار يحبني هكذا)، وفي فترة أخرى تأثر بالفنان الفرنسي جان دوبوفيه. وقد عُرِفَ هذا الفنان بتعدد زيجاته وكثرة أبناءه، وكلما كان ينفصل عن زوجة له يتغير اسلوبه في الرسم. تعززت مكانة هذا الفنان متعدد الزوجات، بعد حصوله على جائزة أدوين شارف من مدينة هامبورغ في منتصف الستينيات، حيث بدأ فنه يعكس خساراته الحياتية وإنفصاله الدائم عن زوجاته وتوزع أبناءه العديدين في مناطق مختلفة. وقد نال بعد ذلك الجائزة الأولى للكرافيك في بينالي فينيسيا، ثم حصل على جائرة شيلر في مدينة مانهايم، لتتكرس مكانته الفنية.
وقد عالج هورست مفردة الأحذية بطريقة تعبيرية، وجعلها تبدو كإنها تعبيراً عن إشخاص في حالات مختلفة، فمرة تثيرُ فينا مشاعر الوحدة، ومرة أخرى تشير الى القنوط أو الإنتكاس أو حتى العزلة. وقد عالج هذه اللوحات بلمسات فرشاة سريعة وخطوط متكسرة أو متداخلة تشير الى ولعه الكبير بالكرافيك وفنون الطباعة. وقد إستخدم هورست تقنيات متعددة لرسم الأحذية التي يراها أمامه، فقد استعمل الألوان والتخطيط والطباعة والتصميم، كذلك ظهرت الأحذية في أعماله التي بدت كإنها سكيتشات لأعمال قادمة. الحرية في المعالجة والقوة في حركة الفرشاة، يضافُ الى ذلك، الروح الطباعية التي يتمتع بها، هو ما تسيَّدَ سطوح أعماله، وكإنه يعيد الحياة من جديد لروادِ بلدهِ التعبيريين، سواء كانوا من جماعة الجسر أو الفارس الأزرق. يضع هذا الفنان خطوطه ولمساته غالباً دون عناية كي يشير الى الإهمال الذي يصيب هذه المفردات التي تعوَّدَ الناس على إستعمالها دون النظر لما تحتويه من طاقة تعبيرية، حيث تنعكس منها -بشكل أو آخر- صور الشخصيات التي إستعملتها، كذلك ما تركته عليها بصمات الزمن، أو حتى ما نالها من إهمال وإزدراء. هكذا حوَّلَ هذا الفنان أشياء يومية مهملة الى أشكال معبرة، وإنقلبت بين يديه فردة حذاء لا قيمة لها، الى عمل فني مذهل تترقبه المتاحف وقاعات العرض. وهو بذلك يؤكد على إن الجمال يمكننا إيجاده في أكثر الأشياء عادية وأشدها بساطة.
يبقى الخروج عن المعايير السائدة هو جوهر شخصية الفنان. ففي الوقت الذي يلبس الناس أحذيتهم صباحاً ويخرجون لإنجاز أعمالهم المختلفة، يمضي هذا الفنان مع الأحذية التي رسمها نحو المتاحف التي تتسابق لإقامة معارض له.