طالب عبد العزيز
عقب كل حرب تَستحدِثُ الحكوماتُ وزاراتٍ وهيئاتٍ، تحت أكثر من مسمّى، لكنها بمعنى واحد هو إعادة الإعمار. تعمل بموجبه على اختصار الزمن، في رسم صورة جديدة للمدن، التي دمرتها الحرب. وكنا قد شاهدنا كيف تمت استعادة مدينة كبيرة مثل برلين،
وغيرها من المدن التي دمرت في الحرب الثانية. هناك إجماع مؤسساتي على مسح وإزالة مظاهر الحرب عبر عمليات الاعمار هذه، وتظافر جهود في تعجيل الترميم والبناء، لأنه يتعلق وبشكل مباشر بالروح الانسانية، التي عانت من ويلات الحرب، قبل تعلقه برصف الحجر على الحجر، ورصف الحديد والاسمنت، وواضح أنه توجيه وبناء نفسي، ومحاولة في النسيان، أكثر مما هو فعل من أفعال التشييد المحض.
يلاحظ صيادو الاسماك والمتنزهون في شط العرب الاعداد الكبيرة من السفن والقطع البحرية الاهلية والدولية الغارقة فيه، ويمكننا القول بأنَّ الشط بات مقبرة كبيرة للحديد المستعصى انتشاله، إذ لم تفلح كل الحكومات المتعاقبة على تخليصه مما غمرته مياهه، حتى وقرت في يقين السكان بأنَّ إرادة محلية واقليمية تحول دون ذلك، وإلا ما معنى وجود أكثر من 44 غارق عملاقة لم تمتد لها يدُ الانتشال الى اليوم، بسبب عظم حجمها، وبما يفوق قدرة شركة الموانئ، التي يعاني عمال رفع الغوارق فيها من عدم امكانية انتشال الغوارق التي تزيد أثقالها على الـ 100 طن، بقولهم: هذه اوزان تفوق قدرة الرافعات لدينا.
عند مدخل كل نهر من الانهار المتفرعة من شط العرب هناك مقبرة مصغرة لمراكب وسفن التجار العراقيين والهنود وغيرهم، الذين تركوها منذ بداية عقد الثمانينات من الحرب، ثم أكل الماء حديدها وتفككت اخشابها، وهمدت شيئاً فشيئاً في القعر، وشكلت عائقاً مائياً أمام انسياب مياه المد والجزر، وملاحياً في حركة الكري وتنظيف الانهار أمام دائرة الري، الامر الذي أوقف عمل شبكة الانهار تلك في تصريف مياه آلاف البيوت التي بنيت عليها منذ سقوط النظام الى اليوم، بمعنى أن المشكلة باتت مضاعفة على السكان هنا، فوجود الغوارق هذه يتسبب في طمي الانهار البعيدة عنها ايضاً، جراء استحالة دخول آليات دائرة الري اليها.
يمتد الحديث في قضية انتشال الغوارق داخل مياه البصرة الى عقد التسعينات، والى سنوات الحصار الذي فرض على العراق، وما بعد أحداث الكويت. كانت شركة الموانئ، ضمن امكانياتها آنذاك، قد عملت على انتشال بعضها، لكنَّ مضي أكثر من اربعين سنة على قضية مثل هذه يثير الشكوك، ويعصف بالنوايا الحسنة، فهو واحد من اسباب تراجع مستويات الاقتصاد في العراق بعامة، بعد خروج ميناء المعقل من الخدمة، وسبب من اسباب صعود المد الملحي المتكرر، كونه يعيق عمليات الحفر التي كانت قائمة حتى الثمانينات، ومفصل أكيد في تلوث المياه، وعائق أمام الزراعة، ومشهد السفن واللنجات وهي تتراكم ممزقة على ضفتيه يجعل من صورة الشط قبيحة من وجهة نظر سياحية وترفيهية، وهذه مسؤولية الحكومة الاتحادية قبل مسؤولية الحكومة المحلية بكل تاكيد.