لطفية الدليمي
أرادت فيروز لها بيتاً صغيراً في كندا. هكذا أعْلَمَتْنا في أغنيتها. أرادت بيتاً (مابيعرف طريقو حدا) يضمّها هي ومن تحب. هل ضجرت فيروز من لبنانها فاختارت لها مكاناً قصياً في كندا الصقيعية؟ ربما، ولها كلّ الحق في ذلك. عندما يضيق صدر المرء بمعضلات وطنه التي لاتنتهي فستكون هناك نهاية لحب ذلك الوطن مهما تعاظم وتصوّر المرء أن لانهاية له.
إنها علاقة مثمرة أن يحب المرء وطنه؛ لكن ليس بنهايات مفتوحة وتحت كلّ الظروف. مامعنى أن تخسر حياتك القصيرة المحسوبة ببضعة عقود في حبّ وطن تعجز حكومته في توفير بيت صغير لك بشروط مقبولة في حدود امكاناتك الفردية.؟
نتغنى معظم الوقت بحب الوطن وكأنّ هذا الأمر أحد مكمّلات الايمان الديني أو الشروط الموجبة لوطنية صحيحة غير منقوصة. هذه محض لعبة مخادعة خلقتها حكوماتٌ إعتادت امتصاص دماء المواطنين من غير أن تتكفل بتوفير حاجاتهم الاساسية المتفق عليها وهي في جوهرها أمنٌ وخدمات. مامعنى القول (حبّ الوطن من الايمان)؟ هذه مقولة آيديولوجية متيبسة. أليس الوطن في نهاية الأمر كوم حجارة وتراب وماء وهواء؟ عندما نتعامل مع الوطن فتلك حالة مجازية تستبطنُ معنى مضمراً جوهرهُ العملي والواقعي على الأرض أنّ الوطن = الحكومة ؛ وعليه ليس من المروءة أن نمنح الحكومة كلّ شيء مقابل استخفافها بحاجات من يفترضُ فيهم بموجب القانون أنهم مواطنوها. هكذا يتصرفُ الألمان والانكليز وكلّ شعوب الارض. لاوجود لفكرة ميتافيزيقية عن الوطن تمتطي صهوَتَها الحكومةُ لتحلب المواطنين استنادا إليها؛ هناك في بلاد الدنيا حساب عسير للحكومة على تقصيرها. القانون الصحيح في علاقة المواطن بالسلطة هو (إخدمْني وإلا فإنّ مآلك إلى رحيل قريب). حبّ الوطن عند هؤلاء له براهين عملية يرى المواطن مصاديقها في مورد يكفل له حياة مريحة كريمة، ومسكن يأوي إليه نهاية كل يوم، ورعاية صحية، ومنظومة بيئية تتفق مع شروط العيش البشري في أدنى متطلباته التي ارتفعت معاييرها راهنا.
سيجانبُ الصوابَ كثيراً من يتصوّرُ أنّ العراقيين يحبون بلدهم. بعد كل هذا،دعونا من المشاهد الفلكلورية الهزيلة. تشغلني دوماً الأسبابُ التي جعلت أغلب العراقيين كارهين لبلدهم وراغبين في مغادرته الى المجهول، ودعونا لاننسى أنّ كراهية العراقيين لوطنهم تعني كراهية الحكومة. المعادلة قائمة دوماً: الوطن = الحكومة في سياقات السلوك العملي اليومي.
البوابة التي تجعلُ العراقي – وسواه كذلك – يحبّ بلده من غير فلكلوريات كاذبة هي أن توفر له سقفاً يأوي إليه. لعلّ معظمنا جرّب إيجار مسكن حيث يضطر إلى اقتطاع مبلغ كبير من دخله الشهري لتسديد بدل الايجار. الايجار دَيْنٌ، وكلّ دَيْنٍ همٌّ في الليل وذلٌّ في النهار. جرّبتُ الايجار مثل معظم العراقيين في بدايات حياتي، وجرّبته ثانية وأنا في عمّان. كنتُ أرثي نفسي وأخاطبها كلّ نهاية شهر: أهذه حصيلتكِ بعد كلّ شقاء العمر؟ ماذا لو لم يساعدني الابناء في التكفل بمعظم مستحقات الايجار؟ ماأبغض تلك السنوات وماأثقلها على قلبي!!
لكن لنكنْ منصفين.كانت في العراق منذ أواخر عهده الملكي برامج لتوزيع أراضٍ على العراقيين وإقراضهم لبنائها، وقد توسّعت تلك البرامج كثيراً عقب فورة المداخيل النفطية في منتصف سبعينات القرن الماضي. ساعدت الحكومات المواطنين في بناء مساكنهم،وأيّةُ مساكن فارهة !! كانت مساحتها تتراوحُ بين ستمائة متر وأربعمائة متر، ولم تنقص عن ثلاثمائة متر في بغداد، وعن مائتي متر في المحافظات، وظلّ المصرف العقاري علامة مميزة في إسكان المواطنين. لن ينسى العراقيون أنّ الأراضي الواسعة التي شيدوا عليها مساكنهم بمساعدة قروض حكومية هي التي صانت كرامتهم في كبرهم وعجزهم ومرضهم في عهد الديمقراطية الزائفة، وحفظت ماء وجوههم أمام أولادهم عندما إقتطعوا مساحات منها لبيعها والاستفادة من أثمانها خلال الضائقة، أو عندما شيّدوا مشتملاتٍ ليجنبوا أولادهم ذل الايجار وألاعيب السماسرة.
ماذا فعلت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003 بشأن إسكان العراقيين (هذا إذا افترضنا وجود حكومة حقيقية)؟.. لم تفعل شيئاً في قطاع الاسكان أوغيره. لاتعرف الحكومة شيئاً سوى التلاعب العجول بسعر صرف الدينار العراقي كلّما حصل خرقٌ في قدراتها المالية المتطفلة على الريع النفطي مثل دودة شريطية تلتصق بأمعاء العراق وتستنزف كلّ مايغتذي به. تركت الحبال على الغوارب، وبات كلّ طامع يفعلُ مايريدُ وكيفما يريد تحت غطاء الاقتصاد الحرّ الذي جاء انقاذاً للعراق من سطوة الشمولية الاقتصادية والتخطيط المركزي الموجّه. أيُّ كذب وأية صفاقة !!
صار من المشهديات اليومية المعتادة في العراق ظهورُ إعلانات تبشّرُ العراقي بتملّك شقة العمر التي لطالما تخيلها في أحلامه، تخبره بتفاصيل السعر والدفع: تدفعُ (كذا) ألف دولار - يسمونها دفترا – بعض بركات الانفتاح الاقتصادي -، ثمّ (كذا) دفتراً عند تسلم الشقة، وأقساطا شهرية أو فصلية على مدى بضع سنوات، هذا كله عدا القرض الاسكاني الذي تتكفل به مصارف أهلية رقّت قلوب أصحابها فأرادوا إعانة العراقيين على السكن بقروض لاتقلُ عن مائة مليون دينار!!. الغريبُ أنّ العروض المقدّمة لهذه الشقق تطمئنُ المواطن بأريحية زائفة أن لايشغل باله بمتطلبات القرض؛ فهي ستتكفل بإجراءاته مع المصرف المعني. وليس أمام المواطن سوى الرضوخ فسعر الشقة أكثر رأفة بجيبه مقارنة بأسعار المنازل.
ماالذي يحصل؟ باتت بعضُ مناطق بغداد تباعُ فيها الأراضي والمنازل بأسعار أعلى من دبي وكبريات المدن الأوربية والامريكية. بغداد المتربة التي تفتقدُ الخدمات صارت أراضيها أغلى من دبي ولندن. والكل يعرفُ السبب من غير تنقيب أو تدوير أفكار.
نعرفُ أنّ كثيرين ممن جاؤوا إستيراداً مع الاحتلال الأمريكي يكرهون العراق لعقدٍ آيديولوجية متأصلة فيهم؛ لكنّ العراقي غير المؤدلج وغير المسكون بعُقَد التاريخ والجغرافيا يفتَرَضُ فيه أن يحب عراقه متى توفرت له لقمة طيبة حلال، وآوى إلى سقف يحميه وأسرته، وإطمأنّ إلى مستقبل لن ينتهي به إلى ذل الحاجة.
أرتعبُ كثيراً كلما فكرت بالأعوام القادمات عندما يكبرُ جيل جديد تقطّعت أواصرُه بالعراق تماماً حتى كفرَ به.
جياع ببطون ضامرة مقابل كروش تزداد انتفاخاً بالأموال المنهوبة: تلك هي الوصفة السحرية لتكره وطنك.