اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: إسماعيل خيّاط

مرساة: إسماعيل خيّاط

نشر في: 25 أكتوبر, 2022: 11:23 م

 حيدر المحسن

هذه الشّمس لي ولكَ، وكانت شِركةٌ بيننا، وكنتَ تائها بين أفكارك عندما تصافحنا، وارتقينا سُلّما حجريّا إلى المشغل. خلعنا النعلين، ودخلنا إلى مكان الهدأة والعمل، وكان يعلو ثلاثة أمتار عن الأرض، ولأنّه يحمل اسم إسماعيل خيّاط فهو يرتفع ثلاثة آلاف كيلومتر عن الواقع.- ليس لدينا وقت. هيّا إلى العمل!

قلتَ لي، بلسانك التّركمانيّ الكرديّ العربيّ المحبّب، وشرعنا في البحث بين عشرات اللّوحات، موائمين بين القصيدة والصّورة، في كتابنا المشترك "حجر إله". كلّ شيء تمسكه يدُ الفنّان يتحوّل إلى خيال تبرٍ، خيال يتحدّرُ سريعا إلى العظم، ويتقطّر في عَرَق الجسد. كما أنّ كلَّ شيء يمكن أن يصير بين يديه لوحةً؛ الحصاة وكيس الرّمل والحذاء الممزّق الذي هو أقلّ من لا شيء. ترى ما ترى، ثم تهجس أنّك قد لا ترى ما لا ترى. مِديةُ صيّاد صدِئة يبرأ منها إسماعيل خيّاط وجه فتاة حسناء، وغطاء علبة "البيبسي كولا" يمسي وجها للوحش الجميل، أمّا علبة دواء مرض السّكّري الذي يقاسي من أوجاعه يسحرها الفنّان إلى مُحيّا صَبيّ يضحك ويبلّل شعرَه ووجنتيه المطرُ. روحي يا روحي يا روحي كم من فلفلْ أُطعم هذا البلبل. على الجدران لوحات وعلى الأرض لوحات، والسّقف مشغول هو الآخر، بالإضافة إلى منضدة طويلة تتوسّط المكان عليها أكوام من مآثر الحلم وحِليات الفنّ. كم ساعة يعمل إسماعيل خيّاط في اليوم؟ أشكّ في أنّه يجد وقتا للنّوم، أمّا الطّعام فغالبا ما يُؤتى به إلى هذا المعبد. كتبت له قصيدة وضمّها كتابي الشّعريّ: "نافضاً عنه جميع أسباب الرّاحة من غير ما أدنى رحمة بنفسه كأنّه مخلوق من عالم آخر، مجبول من عجينة أخرى يقوم الحجر بما يقوم وكان العمل كلّ دنياه ها هنا الحياة كما يجب أن تكون، وكما آمن من قبلُ أنّها ستكون". شبّهتِ القصيدةُ الفنّانَ بقطعة حجر، وهي تتّفق مع اللّقب الذي يُطلق على إسماعيل خيّاط في الوسط الفنّي "الرّجل الحجريّ".

إحدى صور الكتاب ترينا الفنّان يبسط كفّين مليئتين بالحجر، فالعالم معروف كلّه في منبسط اليدين، عالم من حجر. ثوب العامل هو الآخر صار لوحة حجريّة، وخوذة الجنديّ والقميص المنقوع بالدّم والرّصاصة التي استقرّت في القلب تكشّفت عن زهرة حجريّة. يقول الشّاعر حسين عبد اللّطيف: "لأرَ ما أرى -ما الذي زادكَ أنتَ أو أنقصك- لأرَ في السّنام ربوةْ، أو كرةْ..." "هل بلغتك يوما قسوة الأزهار؟". سألتَني، وكنّا هبطنا الدّرجات وانتقلنا من المشغل إلى الصّالة في البيت، وكان للبيت قلبه وسيّدته، وأعدّت لنا السّيّدة وليمة. ما أسخن الدّموع في عيون اليتامى المشرّدين الجياع؟ على الرسّام أن ينقلها على قماشة اللّوحة، قلتَ لي، كما أنّ الألم من اختصاصي، مثلما يختصّ الطّبيب بالقلب أو الدّماغ أو الكِلْيتين. على الفنّان أن ينزل إلى سرّ الحياة، أي إلى جذورها. كنتُ ألمح بين العتمة في الصّالة والأضواء صحن طعامك المحروم من عطايا الوليمة، لأنّ مرض السّكّري أوقد نيرانه في عينيك ووجهك، وجهك الصّخريّ المخدّد بحزوز الألم. ثم تابعتَ حديثك، في تلك الظّهيرة: - لستُ فيلسوفًا، لكنّي أرى الجنّة، وما فيها من أنهر وفاكهة ورمّان، وأنظر في الوقت نفسه إلى النّاس يسيرون مقيّدين بالأغلال إلى النّار، محترقين بجهامة هذا السّؤال: لماذا؟ هل من سبيل إلى أن يدخل المحرومون من بستان النّهر جنّة البحر؟ للإجابة عن هذا السّؤال، على الفنّان أن يشرّع جميع أسلحته في وجه القدر، ربما يحدث عندها الأمر، وتعود وجهة هؤلاء إلى سكّتها القديمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram