TOP

جريدة المدى > عام > الاسطورة لها حضور في الصورة

الاسطورة لها حضور في الصورة

نشر في: 29 أكتوبر, 2022: 10:42 م

ناجح المعموري

نشر القاص لؤي حمزة عباس مقالاً في جريدة الصباح يوم 18/3/2015 قرأت باهتمام مقالة لؤي حمزة وبرزت لدي ملاحظات ضمن اهتمامي المعروف بهذا الفن،

ووجدت آنذاك فرصة للاتصال مع القاص الكبير محمد خضير وتحدثت عن صورة والده التي كتب عنها القاص لؤي حمزة كان محمد خضير آنذاك قليل الكلام وشعرت به متكتماً ومذ ذلك اليوم ابتدأت تدوين ملاحظات حول « بورتريت « خضير الذي حفز الكثير من الملاحظات وكنت اسجل واستعين بآراء داعمة لما انوي الذهاب اليه. حفظت ما كتبت في مكان يذكرني بالبورتريت واعادود القراءة والتقاط اراء وهي كثيرة في مصادر معنية بالفوتوغراف وكلما اقرر استكمال المدونات اتريث حتى حانت لحظة تاريخية بالنسبة لي ولمن سيطلع على ما كتبت. سيكتشف بأن ما كتبت بعيد عن الشعرية وقريب عن تفاصيل الصورة وما يعنيه الجزء منها اقتراناً مع التاريخانية وما حصل معها من وقائع واحداث، وما تبلور معها وكأن الصورة / البورتريت « رمز دال على المجالات الاجتماعية، التاريخية، الثقافية وانعكاس ذلك على الزي بوصفه نظاماً ثقافياً، دلالياً وعلى وفق سيميائية رولان بارت الذي قال اللباس لغة الجسد. لذا كان اللباس المديني قد منح الصورة لغتها الحقيقية، واضفت على الجسد نوعاً من الدهشة والغرابة وسط محيط لم تتسع فيه مظاهر المدينية.

الازياء الظاهرة هي التي اضفت على الكائن / خضير قيمته المادية، والاجتماعية، والرمزية.

الازياء الظاهرة في « البورتريت « السدارة، القميص، الرباط، السترة، معاً هي غلاف خارجي للجسد وبمجموعها تنفتح على دلالات رمزية مثلما ذكرنا. واستطيع التصرف بمقولة ميرلوبونتي واقول ان الصورة ذاتها هي التي تميل نحو العمق كما تمضي الحجرة الساقطة الى اسفل. الوجود الذي يمكن ان يكون مفهوماً هو الصورة « بتصرف من جادامير هو البورتريت عبر عن كائنه بلغة الشعر الخفي.

وللناقد امين صالح رأي جوهري حول الغامض. الذي يمثل الوجه المكشوف / امين صالح / الكتابة بالضوء / ص8//

لعب الاب خضير دوراً جوهرياً في الذي تبدّت عليه الصورة وتمظهر ذلك عبر القميص الابيض وربطة العنق البيضاء، التي اندعم لونها مع لون القميص ومدورة الرباط ورماديات حافاته الملتصقة بمثلث العنق. وظلت الجاكيتة بخطوطها ذات تأثير ملحوظ. ويبدو بأن المصور الفنان عرف الحضور جيداً بواسطة السواد عبر الزي والوجه والشارب والحاجبين، واتساع عينيه ودكنة حاجبيه والشارب المقلم بدقة، مع حافة الشعر فوق الاذنين المفتوحتين، وكأنهما يؤديان وظيفة التقاط نداء هادئ من بعيد كل صورة ينتجها الذهن. هي كل شيء جسمي، انها كما يقول سارتر في « التخيل « نتاج فعل اجسام خارجية في جسمنا عن طريق الحواس والاعصاب وأن التخيل « او معرفة الصورة يأتي من الادراك / حاتم الصكر / البئر والعسل / دار الشؤون 1992/72//

مردوخ الاله القومي له اربعة عيون، بمعنى يرى كل شيء موجود في العالم. وللاله انكي السومري / ايا الاكدي لديه اربعة آذان، يلتقط حتى الهمس الذي يحصل في ابعد مكان بالعالم.

العلاقة مع البورتريت معقدة ومعطلة، لان غزارة معناها ومحمولاته الدلالية في بئر عميق.

الرموز في صورة خضير تنتج دلالتها، وتنظمها وفق آلية القراءة، اذا كانت عمودية، او افقية مثلما قال رولان بارت عن الزي ككتابة.

في كل مرة جديدة يعيد العمل الابداعي ترتيب مفردات لغته الممكنة بطريقة مختلفة، الى ان يكون اضافة معرفية مميزة، ويسعى ان يميط اللثام عن الحقيقة الغائبة في الكلمة، فتأتي بها الى الضوء في ممارسة متواصلة تقدم بضاعة التلقي كما قال اسعد الاسدي في مقالته « عمارة التفكيك تكتب العالم / مجلة الكوفة / ص1/ شتاء 2014//

اللباس، بشكل عام، وبعض منه كالسدارة وربطة العنق، محمولات دلالية عن التقنية والتنظيم الاجتماعي، بمعنى حصول اندماج ثقافي داخل المجتمع، تتضح ثقافة الجسد في هذا البورتريت بالقوة التي يتمتع بها الكائن. وهذا ما تشف ملامحه العامة وبتفاصيله الدقيقة. وهذه اعتبرها الدرس الانثربولوجي الثقافي في المظاهر الاساسية المعبرة عن الجسد، وبوصفها تراكمات نصية لها طاقة بالجسد وللتأثير عليه كذلك.

تومئ لنا محمولات الجسد الثقافية، هو مدينيته الدالة عليه، بوضوح، ابتداء بالزي الكامل بتفاصيله، وثقافتيه الجسد لا تقبل الشك. فالافندي متحضر ودلائل ثقافته واضحة ابتداء بالسدارة ورباط العنق. فالجسد دال ثقافي كما في التصورات الانثربولوجية.

الازياء كالكلمات، تنظم ضمن سياق وتحقق وظيفتها الاتصالية / التبادلية كما قال رولان بارت. وهي تتشكل افقياً وعمودياً ولا يمكن ان تخرج من سياق الانتظام.

الشفرة العميقة التي ارسلها البورتريت لنا، هي ان الكائن الماثل امامنا متخندق داخل المدينة، ولا يمكن أبداً ازاحته ليكون خارجها. ولذلك دلالات ومحمولات ثقافية.

تمنحنا الصورة / البورتريت رسالة واضحة وصريحة جداً مفادها انتماء الكائن الذي في الصورة الى الحداثة العراقية المدشنة في بداية الاربعينات بشكل مقبول، ويوميء هذا الشخص ايضا لانتمائه الاجتماعي، للطبقة المتوسطة وتمكنه الاقتصادي والثقافي، ونستطيع اعتبار الشخص المصور هو الانموذج الحقيقي لتمثيل ابناء الطبقة الوسطى.

التصوير هو الثالث في تراتبية الفنون لدى الفارابي. وان اي تحول في تصوير النور يعكس تحولاً في الحضارة كما قال « اليوت « والنور في الدين اشراق المطلق، وفي ما نراه مضيئاً هو تمظهر انطولوجي. لذا يمثل هذا البورتريت نوعاً من التدوين بالضوء والظل. والرؤية هي التي تمنح الصورة وجوداً خاصاً.

تجسد الفوتوغرافيا القديمة جزء حيوياً للذاكرة الفردية او الجمعية. مثلما هي تعبير حي وجوهري عن الكائن المتبدّي في الصورة التي تعتبر انموذج غائب، ولحاضر امتد غيابه. لان بنائية الغائب هو حاضر والحاضر ايضا غائب، لكنه مهماً امتد بغيابه يتعمق حضوره وينتج رمزياته الاكثر عمقاً وتشعباً. صحيح، نحن لا نستطيع حفر بئر الصورة لحظة التقاطها بعد عشرات السنين. او بعد زوال مرحلتها الاجتما ــ سياسية وثقافية. لان ذلك يسحبنا نحو الغائب لاستحضاره، واجراء حفريات استولدتها الدهشة، او دفعتها اليها، وهذا ما يحصل لي وانا اعاين هذا البورتريت، لانه يمثل لغيري مخزوناً لذاكرة عائلته او سرديته، عن احلام كانت قبلاً. حتى لو لم يكن البورتريت معروفاً فقد تميز بطاقة مدينية وقوة ثقافية، لها تفعيل واضح في ضمير الجماعة.

البورتريت ذاكرة لعائلة فقط. لكنه الان صار ذاكرة جمعية. وتأتي هذا من ان التاريخ الطويل جعله سردية أولاً واخضع هذه السردية للفحص والتأويل ثانياً، وكشف عن شيء خفي له علاقة بالهوية الشخصية للكائن وسلالته

يفضي الزي نحو رموز في غاية الاهمية، لانه جزء من مدونة / كتابة، يومئ الى نشاط الجماعة المشحونة بالدلالات الرمزية، لان الزي يمثل فعالية متخيلة. وقوة الصورة / البورتريت في رمزياتها، اي في المعاني التي تتخفى وراء نصوصها وتؤشر نحو غايات لا يدل عليها النص مباشرة. لان المعنى الحقيقي له متوار عن الانظار. والعقول للوهلة الاولى بسبب ترميزاته كما قال د. شاكر شاهين.

ينطوي السواد بمساحته من السدارة وحتى الحنك على دلالة اشرنا لها. ويشترك الوجه مع الرأس وسدارته برزانة واضحة وكما قال جاك دريدا، باننا نطلق الكتابة فيما وراء الوجه الدال على الوجه المدلول عليه، وعلى كل ما يمكن ان يؤدي عموماً الى التدوين سواء كان حروفياً او تصويرياً او موسيقية وبحثية. تمتلك الصورة سلطة داخلية تعبر الى الجمهور بشكل مشاعر محدثة توتراً في استجابة مباشرة / تارتوفسكي / النحت في الزمن / ص11//

قالت سوزان سوزنتاغ : الصورة الفوتوغرافية هي ليست نتيجة للقاء بين الحدث والمصور الفوتوغرافي فحسب، بل ان التقاط الصورة هو حدث بحد ذاته لذا فان الماضي يتكلم ــ من خلال الفوتوغرافيا ــ بلسان فصيح ولحظة تكلم الماضي يعني انه يستعير ذاكرة الجميع، وينصت له الكل حتى بصمتنا يهمس، فصوته مسموع مدوً، مثير ومقلق.

استعيد مقولة بودلير عبر سؤال : هل يجعل الفوتوغراف الانسان نرجسياً يحدق كثيراً بصورته.

أخيراً اقول ما اختتم به مقالتي المعطلة منذ 2015 ان الفنان الذي انجز البورتريت لم يكن مصوراً للكائن، بل ممتلكاً له، ولذا قدمه بآلية راقية جمالياً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

في مديح الكُتب المملة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram