لطفية الدليمي
قد يجد الروائي ذاته أحياناً منغمساً في لعبة معرفية استقصائية شاملة ودقيقة يمكنُ أن تبلغ تخوماً لم يتوقعها الروائي عند شروعه بالعمل.
تمتاز الرواية الرصينة بأنها لعبة ذهنية / تخييلية في المقام الأول بصرف النظر عن تجنيسها النوعي وتقنياتها السردية، ولابدّ لهذه اللعبة الذهنية المحبّبة أن توظّف كماً هائلاً من الأفكار التي يلجأ إليها الكاتب من مخزون خبراته الشخصية و/ أو من معين قراءاته أو مشاهداته البصرية أو أية وسيلة أخرى تصلح وسيطاً لضخ المواد الأولية المشكّلة للأفكار التي يبتغي الكاتب الكشف عنها في سياق لعبته الروائية الذهنية، ويسري هذا "القانون" الروائي على كل الروايات المعروفة حتى تلك التي توصف بالروايات " الميتافيزيقية " أو " الفلسفية " ؛ لذا أصبح من الطبيعي أن تكون كتابة رواية رصينة عملاً متطلباً يستلزم جهوداً فائقة تتطلّب شهوراً - بل ربما سنوات - من البحث والتقصّي والتدقيق في نُتَفٍ وجزئيات صغيرة ستستخدَمُ لاحقاً في البناء الروائي، وأحسب أن تلك مهمة شاقة لايقوى عليها إلا من امتلك الشغف القادر على مغالبة أيّ شعور بالضجر وقلة الحيلة وانسداد الآفاق. أحسبُ أنّ سؤالاً محدّداً سيحضرُ على الفور: كيف يمكن المواءمة بين المتعة والكشف الاستقصائي المعرفي الدقيق ذي السمة الموسوعية؟ يمكن أن يتحقق هذا الأمر إذا كان القارئ نوعياً متطلباً ذا شغف موسوعي مثل الروائي تماماً. الموسوعية لاتقتلُ الشغف كما يتصوّرُ بعضنا ؛ بل أنّ بعضنا تدفعه الخصيصة الموسوعية في الرواية لمتابعتها بشغف ومثابرة. ليست المتعة قرينة شرطية للروايات البوليسية وروايات الجريمة. يمكن أن يكون تاريخ تطوير صواريخ V2 التي استخدمها النازيون في قصف لندن ومدن بريطانية أخرى في الحرب العالمية الثانية موضوعاً في سياق رواية يعترف أكابر النقّاد بجودتها - تلك هي رواية V2 التي كتبها روبرت هاريس Robert Harris. لاحظوا كيف أنّ الروائي إختار لها عنواناً مختصراً يبدو مفرطاً في دلالته التقنية، ولم يأبه لكلّ الاعتبارات الفنية والتسويقية.
كان أمراً غريباً - أو صادماً لو شئتُ التوصيف الدقيق - عندما قرأتُ خبراً يفيدُ بنشر الترجمة العربية لرواية (دعابة لانهائية Infinite Jest) للروائي الأمريكي الراحل ديفيد فوستر والاس David Foster Wallace. كيف يمكنُ أن يتوقّع المرء إقدام دار نشر عربية على نشر ترجمة عربية لرواية ضخمة تجاوزت الألف صفحة في نصها الإنكليزي، وتنطوي موضوعاتها على خلطة غريبة من أحاديث عن الفلسفة واللغة ولعبة التنس والطبيعة الرياضياتية لمفهوم اللانهاية والألعاب الحاسوبية ووووو...؟ صحيحٌ أنّ هذه الرواية حققت مبيعات قاربت تخوم النصف مليون نسخة في أمريكا وحدها ؛ لكنها ظلت رواية إشكالية حتى في العالم الغربي من حيث تجنيسها وطبيعة موضوعاتها ؛ فالقارئ الغربي في نهاية الأمر ليس كائناً مصنوعاً من عقل خالص بل يسعى – مثل سواه – لقدر غير قليل من التشويق فيما يحبّ قراءته من أعمال روائية أو غير روائية، وروايةٌ مثل رواية والاس قد لاتكون خياراً مناسباً له وبخاصة أنها ضخمة تستقطعُ قدراً ليس بالقليل من وقت القارئ وماله، ثمّ أنّ الرواية الموسوعية تستلزمُ – بالضرورة – قارئاً موسوعياً أو ذا ميل قرائي يستطيب النزعة الموسوعية ولاينفر منها، وهذا النوع من القرّاء نادر للغاية. هذا في العالم الغربي ؛ أما في عالمنا العربي فالمعضلة أكثرُ تعقيداً لأنّ القارئ العربي ليس معتاداً على قراءة المطوّلات الروائية، ثمّ أنّ ترجمة مثل هذه الأعمال ليست موضوعاً يسيراً من الناحيتين العملية والإجرائية. قاربت الترجمة العربية تخوم الألفين من الصفحات، وهذا يفرضُ عبئاً تسويقياً ثقيلاً على دار النشر فضلاً عن أنّ كثرةَ من المترجمين يفضلون ترجمة خمسة أو ستة كتب، وربما أكثر، في موضوعات مختلفة بدلاً من ترجمة عمل واحد مفرط الطول تشتبك موضوعاته بطريقة غريبة وغير معهودة في الفن الروائي السائد.
عاش ديفيد فوستر والاس (1962 – 2008) حياة مضطربة عبث بها الإكتئاب المرضي، وربما من المفيد للقارئ أن يقرأ تفاصيل عن هذه الحياة التي كانت دراما حقيقية كاملة الجوانب. إمتلك والاس عقلاً رياضياتياً وفلسفياً لامعاً، وهو مانجد آثاره منعكسة في أعماله، ومنها كل شيء وأكثر: تاريخ مختصر للانهاية (2003)، وقد تُرجم إلى العربية. يستطيعُ القارئ الشغوف مراجعة حوار مع والاس عنوانه (العالمُ في دعابته اللانهائية) ترجمتُهُ ونشرته في كتابي (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة) ضمن حوارات مع نخبة من الروائيات والروائيين.
يمكنُ أن تكون رواية (دعابة لانهائية) عملاً فلسفياً، أو رواية موغلة في نزعتها مابعد الحداثية. قد نختلف في تجنيسها ؛ لكننا لاأظنّ سنختلفُ عن توصيفها (رواية موسوعية Encyclopedic Novel).
ليست الرواية الموسوعية بالمفهوم السائد في الأدب الروائي عربياً وعالمياً. لو تصفّح أحدنا – مثلما فعلتُ – القارة الغوغلية بحثاً عن الرواية الموسوعية فلن يجد الكثير: سيعرفُ أنّ الرواية الموسوعية مفهومٌ أدبي كتب عنه وروّج له إدوارد مندلسون Edward Mendelson أستاذ اللغة الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وقد جاءت مساهمته التأصيلية عبر مقالتيْن كتبهما عام 1976، الأولى بعنوان (السرد الموسوعي) والثانية بعنوان (موسوعة الجاذبية). باستثناء هاتين المقالتين لم أعثر على مادة حيوية بشأن الرواية الموسوعية ماخلا رسالة دكتوراه في جامعة منيسوتا أتاحها كاتبها للنشر المجاني، وفصل عنوانه (الرواية باعتبارها موسوعة) في كتاب (دليل كامبردج المرجعي في الرواية) المنشور عام 2018.
الموضوعة الرئيسية في رواية دعابة لانهائية (أو دعابة لاتنتهي كما وردت في الترجمة العربية) هي العودة المتواترة، وهذا مصطلح تقني نوعاً ما ويستخدَمُ بكثرة في المنطق والرياضيات.
كان ديفيد فوستر والاس مولعاً أشد الولع بفكرة العودة المستديمة، ويعالج والاس في روايته موضوعات عدة أرى أن أهمها هو الألعاب المختلفة التي نلعبها في حياتنا، وأغلب تلك الألعاب هي من النوع الذي يعتمد مفهوم العودة المتواترة، مثل الكيفية التي نتيه بها مع أنفسنا ونحن نلعب الألعاب الحاسوبية التي يُراد منها أن تُغْرِقَ إحساسنا بالعزلة والوحدانية والبؤس، وقد تجعلنا هذه الألعاب نشعر بأننا نحرز تقدماً في حياتنا ؛ ولأن هذه الألعاب تنزع نزوعاً لانهائياً فقد يكون إحساسنا بالتقدم وهماً خالصاً !! ؛ ولكن ربما على المستوى البشري فإن هذه الألعاب لاتعدو أن تكون وهماً بصورة لايمكن نكرانها، وقد وظّف والاس هذا المنحى المزدوج بشأن النظر إلى هذه الألعاب. هذا جانبٌ فحسب من جوانب نظر والاس إلى الحياة البشرية المعاصرة، وربما نرى فيها إرتكاناً إلى فرضية علمية ترى أنّ الحياة البشرية ليست أكثر من محاكاة حاسوبية !!.
وظّف والاس في عمله الملحمي الضخم هذا كل أنواع الحبكات المختلفة والمتقاطعة ثم ينتهي في آخر الأمر بتقديم شيء ما لنا ويطلب إلينا أن نعمل على تفسيره بحسب مانراه. لايفرضُ والاس على القارئ رؤية مسبقة ؛ بل يتيحُ لكلّ قارئ النظر إلى مايقرأ ومساءلته من وجهة نظره الخاصة ومرجعياته الفكرية الشخصية. إن رواية والاس تقارب موضوعة الوحدة اللانهائية، وهو يرى أن واحدة من أهم الألعاب التي نلعبها (وهي اللغة) يُراد منها في الأساس أن تساعدنا ليفهم أحدنا الآخر ولكي نخفف من غلواء عزلتنا المستكينة ؛ ولكن اللغة باعتبارها لعبة محكومة بقواعد محددة تبدو واهنة تماماً وعاجزة عن إنجاز تلك المهمة. إن هذه اللعبة ونظائرها يمكن أن تكون نوعاً من إدمان – أي بمعنى طريقة للعب الجماعي معاً كما لو كنا جماعة فعلاً غير أننا في واقع الحال لسنا كذلك !! وتبقى الوحدانية والحزن سمتين مُعَلّمتين في قلب تلك اللعبة. إن حقيقة عزلتنا الصارخة موضوعة جوهرية في أغلب الأدب المتداول، وهذا أمر يبعث على الإمتاع (مثلما نظن جميعنا) لأن الأدب عندما يعمل على تعميم الإحساس بأكثر تجاربنا الإنسانية مشاعية فإنه يرتقي بهذا الإحساس بالعزلة نحو مديات أبعد ؛ غير أن والاس يصرّح في روايته بنزوعه الشكوكي تجاه هذه الإشكالية. إن رواية والاس هي في المقام الأعلى رواية عن اليأس المطبق، وإن اليأس فيها يحمل شحنة من الإمتاع بقدر مايبعث على القنوط، ولكن لابد من القول أن المتعة المطلوبة في هذه الرواية ليست أكثر من عنصر صغير من العناصر التي أرادها والاس حاضرة في روايته. قد يرى بعضُ القرّاء أن رواية والاس الموسوعية تنتمي لجنس (أدب اليأس)، وقد يكون لهم مايسوّغ نظرتهم ؛ لكن تبقى الرواية باعثة على الإمتاع لكلّ من يمتلك شغفاً فلسفياً ورؤية تستكشف الخيوط الخفية بين الاشياء والأفكار.
* * *
ماذا عن الرواية الموسوعية في عالمنا العربي؟ أظنها نادرة غير شائعة على مستوى الروائيين والقرّاء ؛ لكن لو شئتُ تسمية روائي عربي ذي نزعة موسوعية في رواياته فسأختارُ (برهان شاوي)، ولاأظنُّ أنّ روائياً عربياً ينازعه في مقدرته الروائية الموسوعية التي تجلّت بأفضل تجلياتها في سلسلة (المتاهات)، ولعلّ السبب في تميز شاوي الموسوعي خلفيته المعرفية التي تجمعُ بين العلم والأدب والسينما والرواية والترجمة. يختلفُ شاوي عن والاس بكون موسوعيته ذات طبيعة فكرية / فلسفية تتناولُ المعضلات الوجودية المتواترة منذ البدايات الأولى لوجود الكائن البشري ؛ أما موسوعية والاس فهي موسوعية موضوعاتية قد تبدو يومية شائعة (بل وحتى مبتذلة) ؛ لكن والاس يمتلك المهارة في ربطها فلسفياً برباط أشبه بحبل نيتشوي غير مرئي. شخوصُ شاوي هم نسخٌ متعددة بالآلاف من آدم وحواء ؛ أما شخوص والاس فمشخّصون معروفون بأسمائهم، قد يكون بينهم لاعب تنس أو مقدم برامج ترفيه أو عامل توصيل للبيتزا أو........
يصف شاوي في سلسلة المتاهات مرجعياته الادبية بأنها « متعددة، وهي كل ما قرأه وعاشه وخبره وجرّبه في حياته، ومرجعياته مصنفة فكرياً، فلسفياً، أدبياً، فنياً، نفسياً، تاريخياً، وعلمياً، وهو لايخفيها كما يفعل البعض ؛ فهو يستشهد بالكتب والكُتّاب والأفلام والأغاني والموسيقى واللوحات التشكيلية ونظريات العلم والكون وطروحات المفكرين وعلماء النفس، ويتوقف محاوراً مشاهد وشخصيات من أعمال أدبية لكُتّاب تتلمذ على أعمالهم...... «.
وصف دي. إج. لورنس الرواية بأنها « كتاب الحياة المشرق «، وأظنُّ – على خلاف الرأي السائد – بأنّ الرواية الموسوعية ستكون الصفحة الأكثر إشراقاً في « كتاب الحياة المشرق « هذا في العقود القادمة.