حازم مبيضين بانتظار نتائج الاستفتاء على مصير العلاقة بين جنوب السودان وشماله،لابد من التذكير بأن عمر هذه المعضلة يتجاوز التسعين عاماً،لكنها برزت بقوة عندما اشتعلت شرارة التمرد الجنوبي الأول عام 1955،
وكانت بريطانيا فكرت خلال استعمارها السودان بإنشاء دولة منفصلة في الجنوب,غير أنها توصلت إلى أنه لا يملك المقومات الأساسية اللازمة لإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة،وأنه لا مستقبل مستقرا للجنوب سوى بالاعتماد على الشمال،ومنذ ذلك الحين تواصلت الانتفاضات الجنوبية المسلحة مطالبة بحق تقرير المصير تارة وبالحكم الذاتي تارة أخرى، إلى أن عقد الرئيس عمر البشير اتفاقاً مع الجنوبيين يؤكد حقهم في تقرير مصيرهم،وليس في ذلك خطأ،خاصة أن غالبية الجنوبيين ليسوا عرباً ولا مسلمين،لكن عليهم وهم يسعون للتخلص من ظلم الحكام في الخرطوم،التفكير في مستقبل دولتهم العتيدة،التي ستظل بدون منفذ بحري ومحاطة بالاعداء من كل الجهات،ومرشحة لأن تكون ساحة للحروب الإقليمية.مؤكد أنه لو كان الجنوبيون شعروا بالمساواة مع بقية أبناء البلد لما فكروا بالانفصال،ومثلهم أبناء دارفور،ومؤكد أن البشير مستعد تماماً للتخلي عن الجنوب ودارفور ليتخلص من الحصار والمحكمة الدولية التي أضافت لسجله مؤخراً تهمة جديدة تتعلق بالابادة الجماعية،وهو مستعد لتفكيك أكبر دولة في أفريقيا، وبحيث يتحول السودان إلى مجرد دولة صغيرة يحكمها بعد تخلصه من الملاحقة الدولية التي ستكتفي باعترافه بالكيان الجديد،بينما هي مطالبة فعلياً بالحفاظ على وحدة السودان خدمة للجنوبيين أولاً،وخدمة للسلام في تلك البقعة من افريقيا،مع إمكانية تعديل أوضاعه السياسية بحيث يتحول الى دولة فدرالية،وبحيث تقطع الطريق أمام البشير للمساومة على إلغاء ملاحقته مقابل الانفصال،وإعادة توتيره الأجواء في دارفور،وبحيث يدفع السودانيون أثماناً باهظة. ندرك بالطبع أن نظام البشير ليس الوحيد المسؤول عن محنة الجنوب،لأن الحكومات كافة التي مارست السلطة بعد الاستقلال تجاهلت الجنوبيين،ابتداءً من حزب الامة الذي استند إلى ليبرالية مشوهة بتحالفها مع العشائرية والطائفية،إلى الجنرال ابراهيم عبود الذي اسقطته مظاهرات شعبية،ليحل محله محمد أحمد محجوب، الذي شكل ائتلافا قويا في منتصف الستينيات، إلا أنه لم يبذل الجهد الكافي للتعاطي مع واقع الجنوب،وبعده جاء جعفر النميري على ظهر دبابة ليحكم السودان لأطول فترة في تاريخه الحديث، ويفرض الشريعة الاسلامية على المسلمين وغيرهم،ويلغي الحكم الذاتي الداخلي للجنوب،ما أدى لانفجار الحرب الأهلية الشعبية وليدخل السودان في دوامة حرب استمرت أكثر من ربع قرن،وسقط فيها أكثر من مليوني شخص وتشرد أكثر من أربعة ملايين،لكن البشير،لم يتعلم الدرس من سابقيه،ففاقم المشكلة حتى أوصلها إلى حافة الانفصال وتدمير الدولة.كان حرياً بالبشير التعامل بوضوح مع التوجهات العالمية بدلاً من اتهام الاستعمار بالطمع في بترول السودان والسعي لاطاحة حكومته،وكان حرياً به الاخذ بالتوصيات الدولية بشأن دارفور،ووضع مصحلة السودان فوق مصلحة الحكم وفوق أوهام الكبرياء والعناد،والسعي لاحلال نظام فيدرالي محكوم بدستور قادر على تحقيق التوافق الشعبي،وبغير ذلك فان الانفصال قادم من الغرب مثل الجنوب،ولن يمنع ذلك سوى دولة عصرية وقوية تنال ثقة مواطنيها،وتنسجم مع المعايير الدولية في الديمقراطية والحفاظ على حقوق الانسان والتعددية والمساواة،وتدرك سلفاً أن المفاهيم القومية حول السيادة وحصانتها وقدسيتها وتسوير البلد بادعاءات عدم التدخل ، وتجاهل حقوق الأقليات والمحاباة الفئوية كلها عناصر انتهت صلاحيتها،ولم تعد صالحة للهضم إلا عند المستفيدين منها،وفي مقدمتهم نظام البشير.
من خارج الحدود ..البشير وانفصال الجنوب
نشر في: 20 يوليو, 2010: 06:52 م