لطفية الدليمي
بدت الشابة اليافعة مسكونة بفرح لم تختبر مثيلاً له في حياتها. كانت الكلمات تتدفق من فمها على غير ترتيب وبما يكشف عن البركان المعتمل في دواخلها. زاد صانع الفديو من حجم الفعل التأثيري لكلمات الفتاة فعمد إلى صنعة المؤثرات المتداولة:
وضع لمعة – على هيئة نجمة – تشع وتخفت، تنبعث من العيون والاسنان حتى ليحسب المرء الذي لايعرف حقيقة الامر مسبقا أنه إزاء إعلان تجاري عن معجون أسنان أو محسّن للبشرة.كانت الفتاة تبدو وكأنها حازت جائزة نوبل، وحققت كلّ ماأرادته في حياتها، ولم يبق لها سوى أن تتنعّم بالطيبات.
الفتاة هي الأولى على الفرع العلمي في امتحان البكالوريا العراقية. تكررت كلمة (الطبية) كثيراً في كلامها. هذا بعضُ ماقالته: كنتُ أحلمُ بالطبية وحصلتُ على الطبية. كنتُ أتوقع أن أحصل على معدّل يؤهلني للطبية، وكان أساتذتي في (الخصوصي) يؤكدون لي أنني سأحصل على معدل الطبية؛ لكنّ أحدهم أكّد لي أنني سأكون الأولى على العراق. وها أنتم ترونني الآن حصلتُ على معدّل الطبية وفي الوقت ذاته أنا الأولى على العراق.
الغريب أنّني بعد أن شاهدتُ هذه الفتاة في مقطع اليوتيوب ظهر لي بعدها مقطع آخر يتظاهر فيه خريجون قدماء من كليات العلوم مطالبين بالتعيينات. كانت إحدى اللافتات التي رفعوها: إذا كان خريجو العلوم غير مرغوب فيهم؛ فلماذا لاتغلقون كليات العلوم؟
ربما سيكون غريباً لو قلتُ لكم أنّني لمحتُ أمراً غريباً بشأن الفتاة لم يسرّني أبداً. الانسان السوي غير المعتل عقلياً أو نفسياً يفرحُ لفرح الآخرين ولايكتفي بمشاركتهم أحزانهم. فرحتُ للفتاة؛ لكنني لمحتُ كماً غريباً من الامتثال والانصياع لديها. شحنت الفتاة كلّ طاقتها العقلية والجسدية لكي تفي بمتطلبات صورة سائدة عن الطبيبة الشهيرة والثرية ذات الاسم الرنان، وهي صورة أرادها لها أبواها ومجتمعها الصغير وحتى مدرسوها الخصوصيون. كم كانت رغبتي عظيمة في سؤال الفتاة: هل خطر لك يوماً أن تصغي لصوتك الداخلي الهامس لتعلني شغفك الشخصي بدلاً من الامتثال الكامل للأصوات العالية التي أرادتك طبيبة؟ ألم تفكّري يوماً بكسر قوانين الامتثال وفروض الطاعة للصور السائدة عمّا يمكن أن نصنعه بحياتنا؟
لسنا غشماء أو موهومين بأضاليل فكرية ناجمة عن مقاربة المثابات الفكرية العالية التي لاترى واقع الحال ولاتمسك بالحقائق المعجونة بالطين الحرّي. نعرفُ أنّ التعليم في العراق إنحدر انحداراً مخزياً وصار نوعاً من التكاسل مدفوع الثمن، لاأحد يهتمّ فيه بالمرتقيات الفكرية التي يمكن أن يتيحها التعليم الجيد وماينجم عنه من قفزات نوعية على صعيد الانعطافات العلمية والتقنية وبالتالي على الاقتصاد. المعادلة صارت معروفة للطالب والمدرّس: يمكن للطالب أن يلعب ماشاء خلال سني دراسته حتى سنته الاخيرة، ثمّ بعدها لابأس أن يشدّ الحزام قليلاً على البطن في سنة التعليم الاخيرة (البكالوريا) لكي يظفر بمعدّل يتيح له واحدة من كليات الطب وملحقاته (الطب، طب الاسنان، الصيدلة)، وهو ماشجّع على حقن التعليم الخصوصي بحقن الانعاش والازدهار. بعضنا يعتاشُ على حاجات بعضنا الآخر والتي لاتفي بها الحكومة، وأهمها التعليم: هذا هو جوهر الحياة العراقية. دعونا لانخاتل أنفسنا: صار التعليم يجري في مراكز التدريس الخصوصي، وهو ليس تعليماً بقدر ماهو مباراة في تعليب الافكار وحصرها في صناديق حتى بتنا نرى تسابقاً في ترويج بضاعة المدرسين الخصوصيين وكأننا في (علوة مخضّر). ألم تسمعوا بملك ملوك الفيزياء، أو إمبراطورة الاحياء، أو كابتن الرياضيات؟
الطلبة مساكين. كلّ ماحولهم يدعوهم للامتثال والانصياع ويقتلُ فيهم أية بذرة صغيرة لشق عصا الطاعة. هم يرون البلاد وقد ساد فيها الجهّال وامتلأت جيوبهم بمال سرقوه من أفواه الناس، وصارت الحكومات لاتعيّنُ سوى خريجي الدراسات الطبية تحت لافتة كاذبة هي (حاجاتُ سوق العمل). ماذا بمستطاع الطلبة بعد كلّ هذا أن يفعلوا؟ في الأقل عليهم أن يؤمّنوا لهم راتباً حلالاً من الحكومة.
هل ثمة مشكلة في الامر؟ نعم، ومشكلة خطيرة ستنتهي بنهايات مغلقة تجعل منها معضلة خطيرة. إليكم بعضاً من جوانب المشكلة ومآلاتها المتوقعة:
أولاً: النوعية الجيدة قرينة الندرة، والكثرة ستطيح بالنوعية. هذا قانون طبيعي ناشئ عن أنّ الموارد ليست بلا نهايات، ولن تستطيع توزيع الموارد المحدودة على أعداد غير محدودة، وكلّما قلّ العدد أمكن تعظيم الموارد البشرية والمادية المخصصة له. هذا هو السبب الذي جعل معظم دول العالم تحجم عن جعل التعليم الجامعي مجانياً.
ثانياً: ماهي صورة الطبيب الشائعة في يومنا هذا؟ إنه حصّالة نقود لاتشبع. أن تكون طبيباً يعني أن تكون لك عيادة يمكن أن تأتي لك بعدة ملايين من الدنانير في اليوم الواحد. قد يقتّر المرء على نفسه في كل شيء إلا في علاجه من الامراض. الطبيب سيكون ثرياً لأنك ستعطيه مايشاء لقاء إبعاد شبح الموت عنك؛ لكنّ شبح الموت صار تجارة وشطارة وألاعيب عند (بعض) الأطباء والبطانة الملحقة بهم من صيادلة ومراكز أشعة وسونار. القانون الوضعي له حدوده وسيقف عندما يصل شعيرات دقيقة لايستطيع الابحار فيها. لن يستطيع القانون الجنائي محاسبة طبيب أو صيدلاني على أفعال تتصل بالضمير. ثمة أفعال صغيرة، غير مرئية على الارض، يكون فيها الضمير هو القانون الحاكم؛ فكيف إذا غاب الضمير؟ التعليم الذي لاينجم عنه إعلاء لشأن الضمير الفردي والجمعي العام لهو تعليم يستوطنه الفشل.
ثالثاً: لن تعود الخدمات الطبية البشرية مورداً للمال الأكبر بعد سنوات قليلة.انتظروا وسترون ماذا سيحصل بعد تعاظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
رابعاً: أظنّ أنّ من المفيد أن تكون لنا في بلدان العالم المتقدم أسوةٌ حسنة. هذه البلدان خرّجت أعاظم الأطباء؛ لكنّها تضمُّ أيضاً أعاظم الفيزيائيين والأدباء والروائيين وعلماء الرياضيات والمهندسين. ألايوحي هذا الأمر بخلل لدينا؟
* * *
لتكنْ كلمةً أخيرةً: كلُّ من يقتلُ شغفه الحقيقي طمعاً في مال أو مركز وظيفي وتماشياً مع موجبات الامتثال السائد إنما يرتكب إثماً بحق نفسه،قد لايدركه اليوم ؛ لكنه سيعيش مفاعيله المؤذية في يوم قريب، لاشيء في العالم يستحق أن يعيش المرء من أجله بقلب كسير وشغف مقتول ونفس معطوبة.