طالب عبد العزيز
حتى منتصف خمسينات القرن الماضي كان الأهل(آباء وأجداد) يسمّون لنا الانهار والجداول وبساتين النخيل والفاكهة في العشار(مركز مدينة البصرة اليوم) وعن ماء الفيضان وهو يغمرها في سنوات عديدة، ولم يحدثنا أحدٌ عن مكان مقدّس في المنطقة هذه أكثر من حديثه عن جامع المقام،
وخطوة الامام علي، وجامع الخضيري وحسينية الحاج جلاوي وكنيس اليهود وكنائس المسيحيين ومسجدَين لبيت المظفر. حيث يجمع المؤرخون والجغرافيون على أنَّ إنتقال مركز المدينة الى العشار إنما قام في بحر المئة سنة الماضية، أما المدينة التجارية والسكنية فقد كانت في البصرة القديمة ونظران، حيث ما تزال بيوت الطبقة الارستقراطية ماثلة اليوم والتي تعمل اليونسكو على إعادة إعمار بعضها.
تشكل الاضرحة والمزارات في الجنوب (لم يتحقق من وجود معظمها)مفصلاً عائماً في صيرورة المدينة، يبعد عنها أحيانا حراك التطور والمدنية، أو يمنحها وجوداً زائفاً، يعتمد في إقامته وتعظيم أمره على المتخيل والمحلوم به، دونما سند تاريخي، وربما ضم الضريح هنا وهناك جدثاً لواحد من عامة الناس صادف أنْ اسمه كان علياً، على سبيل المثال، وهو اسم مقدس، نسجت الاخيلة حوله الاساطير، فتحول في الزمن الى واحد من أبنائهم، وهكذا سيكون قد دخل السلالة الطاهرة، وما هو منها بشيء.
تنشط المخيلة الشعبية في نسج الروايات، وصناعة الشخوص، على وفق ما تهوى وتريد، دونما عناية بالازمنة والامكنة، ففي البصرة القديمة، عند مدخل الشارع المسمى باسم بشار بن برد(96-168هـ) هناك مزار لضريح ينسب الى علي بن يقطين(124-182هـ) وهو ابو الحسن بن يقطين بن موسى البغدادي، المولود في الكوفة والمتوفى في بغداد، والمعروف بعدائه لحكم العباسيين، وموالاته للإمامين(الصادق والكاظم) لكنَّ التاريخ لا يحدثنا بشيء عن مروره أو اقامته في البصرة، وإن حدث فلم تكن البصرة القديمة آنذاك، فهي التي وجدت بعد التاريخ ذاك بمئات السنين.
لكنَّ المخيلة تلك لم تستطع ترميم وبناء قبّة العباس، التي سقطت في العام 1961 وكانت قائمة على قبر لأحدهم، في محلة العباس، في المنطقة المسماة اليوم باسمه (العبّاسية) قيل أنه قبر لسيدنا العباس، وكانت العامة تقدسه، وتعقد النذور له، وتتبرك به. لكننا، لا نعرف من هذا العباس المزعوم؟ ضريح مفتعل لم يصمد أمام الحقيقة التاريخية الكبيرة لقبة وضريح الامام العباس في كربلاء، التي نسفت فكرة الضريح المزعوم هذا. معاينة التاريخ ومراقبة الجغرافيا والزمن كفيلة بأن تهدينا الى الحقائق الكبيرة، وتعصف بالاخيلة الشعبية التي كثيرا ما تكون ساذجة.
لعلنا نسأل السؤال التقليدي جداً لماذا لا نجد من يحدثنا عن سوق كاظم آغا في محلة السيمر، بالبصرة القديمة، وهو من أعظم أسواق المدينة، حتى دخول الانجليز سنة 1916 والذي يقول فيه المؤرخ حامد البازي(1920 – 1995م) على لسان العلامة دوزي في باب معجم الملابس بانَّ اهالي البصرة رجالا ونساء كانوا يلبسون البرفكان، وهو ازار او كساء جميل يلفُّ الجسم، ومفارشهم من الحرير، وقد استعملوا الريش في وسائدهم. وكان العاج يرد سوقهم هذا من أفريقيا(زنجبار والصومال) وكذلك ريش النعام والطاووس وانواع من الفراء... وسجّل احدهم في مذكراته ان سوق السيمر الواقع خلف مبنى البلدية، وسوق كاظم اغا وهو في محلة القبلة كانا مملوءين بالبضائع الافريقية، وكان الحاج محمد المرجان وحاج صليوي والحاج مبروك والحاج الماس من تجار افريقيا الذين سكنوا البصرة وبفعل وجودهم صارت البصرة مركزا لتوزيع التجارة الافريقية على مناطق الشرق الادنى وروسيا ودول البحر المتوسط ودول البحر الاحمر.
لماذا لا يتداول الناس أخبار المكتبة التي اسسها في البصرة ابن سوار في القرن الرابع الهجري، والذي رتَّب فيها معاشا للعلماء العاملين عليها، ولا يتحدثون عن القاضي ابو الفرج ابن ابي البقاء الذي اسس مكتبة تحوي نحو من خمسين الف مجلد، ويصمتون عن أخبار مالك بن ابي السمح، مؤسس المدرسة البصرية في الغناء، وهو أشهر تلامذة معبد في المدينة، ولماذا لا يأتي أحد على ما قاله الخطيب البغدادي من أمر محمد بن سلمان الهاشمي الذي عمل الدواليب، وحفر الارض، وبنى الاحواض لخزن المياه، ثم عمل انابيب من رصاص على شكل شبكة الاسالة توزع المياه على البيوت؟ وكيف يغفل الناس ما قاله الرحالة تافرنيه 1603-1652 عند مروره بالبصرة عن مصانع سك النقود، ايام حكن حسين افرو اسياب، حيث كانت يصهر الذهب والفضة لهذا الامر.
وأين نحن من تاريخ المدينة العظيم يوم جلب الهنود الاقمشة والنيل، وجاء الهولنديون بالتوابل، واخذ الانجليز الملح، وجلبوا الالات، وقصدها التجار من الموصل وبغداد وديار بكر وحلب وازداد الطلب على التمر البصري حتى قيل ان في سنة 1063هجرية- 1652 م وقفت في مياه شط العرب 400 سفينة.
يقول المدائني أنَّ ابا بكرة قال لابنه مسلم: يا بني والله ما تلي عملا، وما اراك تقصر عن اخوتك في النفقة فقال: إنْ كتمت علي اخبرتك. قال فاني اغتلُّ من حمّامي هذا كلَّ يومِ الفَ درهم وطعاما كثيرا. ولعل أثمن ما قيل في البصرة أنهم تذاكروا مرة عند زياد بن ابيه البصرة والكوفة فقال زياد لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها.
هي دعوة صادقة لبعث الروح في تاريخ المدينة، وتقديم رجالها الاوفياء، صناعها الحقيقيين، الذين أسسوا وبنوا وشيدوا وأقامو ا.. إذ ليس في الاضرحة ما ينفع أولادنا بشيء.