TOP

جريدة المدى > عام > سعدي الرحال.. المرجعيات (الداخلــمادية) لكائناته

سعدي الرحال.. المرجعيات (الداخلــمادية) لكائناته

نشر في: 6 نوفمبر, 2022: 11:59 م

خالد خضير الصالحي

تختلف المهيمنات، سواء الفكرية منها، او المادية، لكل رسام عما يماثلها عند رسام اخر، وهو ما يستدعي اثارة ذهنية مختلفة، وبالتالي استجابة مختلفة عما تثيره تجارب رسامين اخرين، فنؤكد بدءا ان اهم ما اثارته التجربة الأخيرة للرسام سعدي الرحال عندنا امران:

الامر الأول، هيمنة وجود نمطين من التقنيات (الشرائح) المختلفة التي يتخذها مادة أولية في تخليق كائناته، وهما: شريحة سوداء فاحمة تماثل سواد الحبر الفاحم الذي يستخدمه الخطاطون، او الطباعون لإنتاج طبعاتهم الكرافيكية بشرائح أحادية اللون، و(شريحة) تنتمي الى (الرسم) باعتباره مقدرة عالية ومختلفة في تقنيات معالجة المادة، وكانه بذلك يمتثل لمقولة الشاعر – الرسام وليم بليك: بـ"أن القاعدة الذهبية والعظيمة للفن، والحياة ايضا، هي كلما كان الخط الحدودي اكثر بيانا، وحدّة، ووترية ازداد العمل الفني تكاملا.. لقد عرف روفائيل ومايكل انجيللو والبرت دورر بهذا الخط وحده.. ما الذي يميز النزاهة عن النذالة سوى الخط الوتري الشديد الاستقامة واليقين في الانفعال والنيات؟ تخلّ عن هذا الخط وستتخلى عن الحياة نفسها، ويعود كل شيء الى الفوضى".

والامر الثاني، ان آلية إنتاج الخطاب التشكيلي عموما والعراقي خاصة، قد لا تختلف عن آلية إنتاج النصوص؛ ومن ثم إنتاج المعرفة على أساس تلك النصوص، فحينما تنبع سلطة إنتاج الخطاب التشكيلي من الواقع، أي حين نعتبر الرسم تشبيها، ونقلا لموجودات الواقع التي هي (النصوص الأولى التي تنتج على أساسها الهوامش)، عندها يبدأ الرسم بإنتاج أعمال تشبيهيه؛ فتـتسلل البنى الحكائية – وهي اعتبارات خارج جمالية وذات طبيعة أيديولوجية – وتبدأ بإزاحة البنى الجمالية، بينما أدى ابتعاد مهمة الرسم عن تقليد شيء آخر لصالح إنتاجٍ يجعل خطابات الرسامين السابقين هي (الخطابات الأولى) التي يستمد الآخرون (نصوصهم) منها، الى تغول تلم المرجعيات لتشكل إطارا مرجعيا وحيدا مما يؤدي إلى إصابة المنجز التشكيلي بحالة من التناسخ الداخلي ومن ثم التماثل المدرسي العقيم للتجارب.

كتبت مرة عن احد الرسامين العراقيين بانه، وضمن سعيه الحثيث لتطوير منجزه التشكيلي، كان يخضع، كما يخضع الفنانون الاخرون، (لقانونين) من (قوانين) الفن الحديث (مع وجوب التأكيد بأننا نستخدم كلمة (قانون) مع تحفظات كبيرة): أولهما، ما اسميته (قانون أندريه مالرو)، وأكد فيه بان الرسام، في مراحله المبكرة، يقلد أشكال الواقع، بينما يقلد، في مراحله المتقدمة اللاحقة، أشكال الفن، وهو ما نجد عليه تجربة الـ(رسامكرافيكي) سعدي الرحال، الذي ودع المرحلة الأولى من تجربته؛ لينغمس الان في صياغة تجربة لا تكترث لأشكال الواقع الا بدرجة طفيفة، فيتراءى ذلك الواقع وكانه يقف خلف غمامة تجعلنا نرى اشكاله ولا نتبينها، فتثير في انفسنا (ذكريات) حميمة ليس الا، بل ان سعدي الرحال يصل في سعيه هذا الى ما اسميته (قانون أميل برنار) الذي يؤكد: توحّد (الفكرة) و(شكل الأشياء) في وعي الرسّام المتقدم، فينتج منجزا يبيح لنا ان نعتبر منجزه الآن، توديعا لتقليد أشكال الواقع، وإنجاز لوحة تمتثل (لشروط) الرسم العراقي (الحداثيّ) في أيامنا الحاضرة.

لقد واجهنا أنفسنا، ونحن نعاين منجز الفنان، بسؤال جوهريّ هو: هل يجوز للدارس ان يتتبع مراحل (صنع) اللوحة؟ أم ان ما يعنيه فقط المنجز المتحقق لها؟، وقد خالفنا ما درج عليه النقد الحديث، فأبحنا لأنفسنا الأمرين معا!!، معتقدين ان عملية إنجاز اللوحة عند هذا الرسام ومن ينحو منحاه، وكما هي عند فناني (رسم الحدث Tachisme) تشكل جزءا جوهريا من متحققها النهائيّ، ومفتاحا مهما لبلورة مقترب دقيق منها، فهو يبدأ عمله أولا، بأن ينقل سطح اللوحة الذي يشتغل عليه، من وضعه الأملس إلى كيفية يتخذ فيها ذلك السطح شكلا خشنا مملوءا: بمتعرجات Meanders، وآثار، وما شاءت الصدف من مواد تلقى عليه، لتشكل (ملمسا) لعين الرسام مؤلفا من (مستحـثات) يمكن ان توفر طاقات محفزة لظهور الشرارة التي توقد الرؤيا؛ فتمنح تلك الآثار طاقة تجعلها قادرة على تلبّس (تحولات شكلية) باتجاه (أشكال مطلقة)، بالمعنى الفلسفي، وليس الهندسي والطوبولوجي، مما يبعدها عن أية مقارنات، أو إحالات إلى أشياء الواقع التي تتخندق ضمن أحد الأشكال ذات المحيط الكفافيّ المماثل في نهاية المطاف.

تتماثل تجربة سعدي الرحال مع تجارب علي النجار وعبد الملك عاشور، حيث يتبع الجميع الالية التي يتبعها رسامو (المفروكات Frottage)، ولكن، ورغم ان الجميع يتّبع تقريبا نفس تكنيك إنجاز أشكالهم، فانهم ينتهون إلى نتائج مختلفة؛ فحينما يعود علي النجار، كواحد من رسامي المفروكات مرتدا من أشكال سطح اللوحة إلى ما يماثلها من أشكال الواقع، يتجه سعدي الرحال، وعبد الملك عاشور بمستحثاتهما صوب أشكال تسيّدت الرسم الحداثيّ العراقيّ بموجب (الاشتراطات) السائدة اليوم، فيلقيان بمهمة البحث عما يجمع اشكالهما مع أشكال الواقع، على عاتق الملتقّي إذا شاء الأخير ذلك وليته لم يشأ!…

يكتب الفنان الكاتب علي النجار عن تجربة سعدي الرحال "ان رسوم سعدي الرحال تجمع ما بين الحس الكرافيكي والكرافيتي في آن معا. فهي تبدو كأنّها شخبطة على الحيطان، لكن، بدون ان تلغي ملامحها التي تتخفّى خلف التعمية الخطية واللونية. وأحيانا ما تكون هذه الأجساد أكثر وضوحا من خلال ما يضفيه عليها من مسحة غلالة تعبيرية رقيقة لا تطمس الملامح تماما. هو هنا إذاً يسعى الى أن يلمح، لا يفسّر. في الوقت نفسه هو أيضا يحاول ان يؤشر الى الفعل. فالتلميح في رسومات كهذه لا بدّ أن تكون مموّهة بوسائل الفنان الإجرائية التي ينفذ بها عمله والتي يأمل منها إيصال رسالته الإنسانية بموازاة دراماتيكية الحدث».

ينجح سعدي الرحال في إخضاع منجزه لأبرز سمات الرسم العراقي (الحداثيّ) السائدة اليوم، حيث: تتفكك مركزية اللوحة شكلياً، وتهرب اشكاله، بدرجة محسوسة، من التشخيصية التي وسمت الرسم العراقي طويلاً، فإنتهت بـ(النـثرية)، والتتابعات الحكائية المنبثقة عنها، بينما يحاول سعدي الرحال انتشال اللوحة من ذلك المصير المحتمل عبر اهتمامه بمادية اللوحة، مع التمسك بقوة باتجاه تجنب تدمير فعل الرسم الذي يسميه الناقد فاروق يوسف (موت فعل الرسم).

نسال انفسنا: هل يكفي كل ذلك الاهتمام بمادية اللوحة إلى اعتبار منجزه منتمياً إلى الرسم الحداثي؟ اعتقد ان كل ما سبق ذكره يُعدُّ، دون شك، سمةً من سمات الحداثة، ولكن السمة الأهم، عنده: تحقق الوعي، عبر منجز متحقق، بان «الرسم (شيء) يوجد من أجل ذاته، وينتسب إليها كلياً» دون مرجعيات وإحالات خارجـ/ـمادية، وهي السمة الأهم التي أقرَّتها حداثة الرسم العراقي الحاضر بدرجات متفاوتة من التطبيقات، فحيثما يمكن للوحة ان (تُفَسَّر) أو تُسْتَشْعَرَ عن طريق الكلمات التي تنـتمي، هي الأخرى إلى موجودات الواقع وتواطؤاته فلا علاقة لها بالرسم!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

في مديح الكُتب المملة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram