ستار كاووش
كانت الرحلة طويلة، لكنها ممتعة، حيث أمضى القطار سبع ساعات، منطلقاً من شمال هولندا الى مدينة دريسدن شرق ألمانيا. جلستُ قرب النافذة، أراقبُ الأشياء وهي تمضي الى الوراء مع تقدم القطار، مزارع وحقول ومصانع،
مقاهي فتحت أبوابها على هذه الناصية ومطاعم امتلأت بالزبائن على تلك الجادة، أشجار إختلطت ألوانها الحمر والصفر والقرمزية والذهبية مع بعضها في مناخ خريفي بارد. القطار يمضي وأنا أتابع الحياة والتفاصيل في الخارج من خلال النافذة. يتوغل القطار أكثر في الأراضي الألمانية الخضراء، فيما تتوارى الأشياء التي أشاهدها سريعاً الى الخلف. خيوط الدخان تتصاعد من مداخن أكواخ الفلاحين وتختلط برطوبة الخريف فيكتسي الدخان لوناً أزرقاً. غابات متشابكة، وحقول إنتشرت فيها الأبقار المبقعة بالأسود والأبيض كإنها معرض للوحات كرافيكية وسط الطبيعة، وقد بانت خلف بعض الأسيجة قطعان من الأغنام التي تلاصقت مع بعضها بفعل البرد. القطار يمضي بصبر وطمأنينة، حتى صارَ يتناغم مع ما حوله من طبيعة ساحرة، وقد توقف في محطات بعض المدن والقرى، ليكملَ طريقه بعدها، كإنه حشرة رشيقة، تتدثر بالغابات وأشجارها التي بدت موغلة في القدم، بسبب الطحالب اللتي غطت جذوعها. ومع هبات بعض الهواء في الخارج لمحتُ أوراق الأشجار وهي تترنح ساقطه كإنها قطع نقود ذهبية، وقد إنشغلَ بعض الصبية بجمع الأوراق التي تكدست فوق العشب وجمعها في أقفاص معدنية بحجم الغرف الصغيرة، فيما جثمت بعض طيور العقعق ساكنة فوق أوتاد سياج المزرعة. القطار يسعى في طريقة، وأنا أُمعِنُ النظر من خلال النافذة، فأرى في عمق إحدى القرى كنيسة قديمة تحيطها أشجار عالية، بدا مشهدها رمادياً شاحباً وسط الحقول البعيدة، حتى خلتها واحدة من لوحات بيسارو. نظرتُ الى حقيبتي متذكراً كتاب (نظارة مونية الجديدة) الذي جلبته معي، فأخرجته وقرأت منه بضع صفحات، قبل أن أنتبه لصوت بائعة القهوة التي تَجوب القطار، فأوقفتُها طالباً قدحاً كبيراً من الكاباتشينو. وضعتْ البائعة القدح الذي إمتزجَ مع إبتسامتها على الطاولة الصغيرة التي أمامي، قبلَ أن أخرج من حقيبتي واحدة من شطائر الجبن التي اشتريتها صباحاً من محطة مدينة لير الحدودية. مرَّ الوقت بين القراءة والتطلع لجمال الطبيعة، لأصل أخيراً الى محطة مدينة دريسدن القديمة المزدحمة التي يعود بناؤها الى سنة ١٨٩٨، بسقفها الزجاجي ذي الأقواس الثلاثة، وقد بَدَتْ بعد إبتعادي عنها كإنها ثلاثة أنابيب عملاقة تحولت الى أنفاق للمحطة التي أُحيطت من كل الجوانب بنوافذ واسعة مقوسة من الأعلى ومتلائمة مع إنحناءة السقوف الثلاثة، وتمنح المحطة شيئاً من حيوية الآرت ديكو. وقد أصابَ هذه المحطة أضرار كبيرة وتحطم جزء كبير منها جراء القصف الذي حدثَ أواخر أيام الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥، لكن أعيد بناؤها سنة ١٩٩٧.
كنتُ قبل هذا الوقت بشهرين، قد دفعتُ إجرة المكان الذي سأقضي فيه سبعة أيام بمدينة دريسدن. وقد كتب لي صاحب النزل -وهو نحات ألماني إسمه هولكر- رقم الشقة وعنوان البيت الذي يبعد عن المحطة عشر دقائق مشياً، مع خارطة طريق توضح الشوارع التي سأسلكها حال خروجي من باب المحطة. لكن المحطة كان لها أربعة أبواب، وعليَّ إختيار الباب المناسب، وأخيراً إنتبهتُ الى إن الشارع المقصود يقع على يمين المحطة، فقطعتُ جانباً منه، ثم عطفتُ يساراً، وفي نهاية هذا المنعطف، ظهرت يافطة مكتوب عليها شارع بودابست، فعرفتُ بأني قد وصلت، حيث ظهر البيت منتصباً خلف بعض الأشجار وبمحاذاة سكة القطار. بيت كبير وقديم جداً بثلاثة طوابق ونوافذ بيض، مع عليَّة تقبع مثل تاج على قمة البيت الذي بُنيَ بالحجر الأحمر. شعرتُ بالراحة وسحبتُ حقيبتي نحو البيت. كان هولكر قد أرسلَ لي قبل ذلك رساله يخبرني فيها بأنه سيضع لي المفتاح في علبة صغيرة مثبتة على يسار الباب الرئيسي للبيت، وذكر لي أيضاً بأن الطابق الأول يسكن فيه بعض الطلاب، فيما يسكن هو في الطابق الثاني بمحاذاة الشقة التي سأقضي فيها سفرتي، وسيكون حاضراً لتلبية أي طلب أو حاجة. أخذتُ المفتاح، في الحقيقة كانا مفتاحان، واحد للباب الرئيسي بينما الآخر لباب شقتي. فتحت الباب وصعدت الى الطابق الثاني، وقد لاحظتُ على اليسار شقة هولكر، وقد إستقرت أمام الباب جزمة عمل رجالية وحذاء امرأة وجزمة صغيرة وردية اللون، فَحَدستُ إن هولغر يعيش هنا مع زوجته وابنته. دخلتُ شقتي بإنتظار ما سيسفر عنه يوم غد، حيث تنتظرني الكثير من التفاصيل والمفاجئات.