مع قدوم فصل الشتاء يزداد إقبال العراقيين على الدبس ، فوجوده في قدر الشلغم يمنحه النكهة والحلاوة ، وبخلطه مع الراشي يوفر وجبة غذائية عالية السعرات يفضلها الصغار والكبار والباحثون عن مآرب أخرى.
يقال إن صناعة الدبس قديمة جدا وربما تمتد إلى العصر السومري، وكان يقدم على شكل قرابين للآلهة من الفقراء والأثرياء على حد سواء ، لنيل مغفرتها وعطفها ورعاية الفرد وحفظه من الكوارث. وبقدر كمية الدبس يبذل الرب السومري كل طاقته وجهوده لتلبية مطالب المعبود بالحصول على زوجة أو التوفيق برحلة الصيد ، والانتصار على عدو شرير. وجود الدبس أو التمر في المعابد جعله عاملا مهما في توطيد العلاقة بين الرعية ورجال الدين ، ونعني بهم الوسطاء بين الرب وبقية العباد.
علاقة الدبس برجال الدين تتلخص في قصة "الملا دبس" وطريقته العملية وأسلوبه الفريد في التعامل والتأثير، فيوم وصل إلى القرية احد رجال الدين طلب منه ملا القرية أن يكتب كلمة "حيّة"، فكتبها لكن الملا رسم الحيّة ، وعند عرض النموذجين توجهت الأنظار إلى رسم الحية ، بوصفها حقيقية .أما الكلمة المكتوبة فكانت سببا في طرد رجل الدين الذي كان يجيد القراءة والكتابة ، فغادر القرية إلى جهة مجهولة خشية اتهامه بالدجل والضحك على عقول الناس .
حيّة ملا دبس على الرغم من مرور زمن طويل ظلت محافظة على رسوخها وحضورها في عقول حتى المتعلمين الخاضعين لأوهام روج لها الملا دبس وأمثاله. والمسألة لا تتعلق بالجانب الديني فحسب بل بعملية غسل دماغ لشرائح واسعة من المجتمع ، تحركها جهات بدوافع الحصول على الولاء والانتماء ثم تسخيرها لتحقيق غايات تخلو من أية أهداف نبيلة ، فالجهل في بعض الأحيان يكون خير سلاح لحماية السلطة وقيادة شعب يرى في تناول الدبس خير وسيلة لتحقيق إرادته في إرضاء الآلهة.
توصف العلاقة المتينة بين الأشخاص بأنها "دهن ودبس"، وأحيانا ينسحب الوصف على علاقة دولة بجيرانها أو بمحيطها الإقليمي ، وكذلك بين القوى السياسية المحلية المشاركة في السلطة. وفي الحالة العراقية لم يدخل الدبس بعد في المشهد السياسي لأن القرار الحكومي أصبح بيد شخص واحد لا يختلف عن ملا دبس في التعامل مع الخصوم والشركاء ، فهو الوحيد القادر على" رسم الحيّة " ، وقاعدته الشعبية على قناعة تامة وأكيدة بأن "حية الملا " مقدسة ومن يحاول النيل منها سيواجه عواقب وخيمة.
من ينكر تأثير الدبس في الحياة السياسية يجهل أسباب استمرار الأزمة الراهنة ، والأطراف التي تؤكد انعدام الثقة بين الفرقاء هي الأخرى تتناسى دور الدبس في تجاوز الأزمة. والقضية ليست معقدة ،فبدلا من تبادل الاتهامات واستمرار الشد والجذب يجب أن يبادر مجلس النواب إلى توفير الدهن الحر الخالص لغرض تناوله مع الدبس من نوع (AA) لتوطيد العلاقة بين الكتل النيابية والأطراف المشاركة في الحكومة، ومن المناسب أن يكون قدر الشلغم حاضرا، وفي أمسية شتائية يمكن التوصل إلى اتفاق لاحتواء الأزمة بشرط حل مشكلة الملا دبس.
يا زمان الدبس!
[post-views]
نشر في: 19 نوفمبر, 2012: 08:00 م