طالب عبد العزيز
بمناسبة قانون الجندية، وبالقدر الذي عاناه جيلنا السبعيني من الحروب والعسكرة المجتمعية وما زال الى اليوم، إلا أنَّ الموضوع بحاجة الى شيء من التروي، قبل اصدار الاحكام النهائية. الخدمة الاجبارية والعيش في المعسكرات والانضباط وفكرة حماية الاوطان والتصدي للمعتدين وبعث الروح الوطنية وما الى ذلك أفكار سامية ونبيلة، بغض النظر عن طبيعة الحكام والانظمة، والقضية قائمة الى اليوم في دول كثيرة، بما فيها دول الجوار كمصر وسوريا والأردن وإيران وتركيا. شخصياً لا أحمل فكرة سيئة عن الجيش.
في ربيع 1972 أرسلتني دائرة التجنيد بالبصرة الى القاعدة البحرية بالجبيلة جندياً مكلفاً، لأعملَ نجّاراً، في تصليح زوارق الطوربيد، مع انني لم أمسك مطرقة ومسماراً في حياتي من قبل. شقيقي الاكبر، الذي كان جندياً مكلفاً أيضاً في حكومة عبد الكريم قاسم هو من أشار عليّ بذلك، لضمان وجودي في البيت، فقد كان الدوام يقتضي الذهابَ في الصباح والعودةَ منه بعد الظهر. أمضيت هناك سنتين، ذاهبا وآيباً، على دراجتي الهوائية، نخرج من القاعدة مع خروج عمال الميناء على دراجاتهم الصفر، نحن الجنود الذين تختلف ألوان دراجاتنا عنهم.كانت السنتين من أمتع السنوات، ذلك لأنني كنت أتقاضى راتبا مقداره سبعة دنانير ونصف، يوم كانت السعادة كلها بخمسة دنانير، فزجاجة البيرة الفريدة بـ 190 فلس، والدجاجة المشوية بـ دينار واحد، وأجرة باص مصلحة نقل الركاب من البصرة الى ابي الخصيب 10 فلوس، والسهرة حتى الفجر صحبة امرأة، لا تكلف أكثر من خمسة دنانير.
في السنتين تلك تعرّفت وبحكم الفتوة والصبا على الكثير من نساء شارع بشار الجميلات، وعقدتُ صداقات مع أكثر من قوّاد وقوّادة، وما زلت احتفظ الى اليوم باسماء فائزة واخلاص وليلى وغيرهن، من بنات شارع النساء الاجمل، يوم ذاك، اللواتي أمضيتُ الليالي الطوال معهن، صحبة صديقيّ اسماعيل وغانم(رحمهما الله) اللذين كنت أقتسم كلفة السهرة معهما، فقد كان تقليداً بصرياً، لا يعدُّ عيباً، اشتراك أكثر من رجل بمعاشرة امرأة واحدة، هذا لا يعني بأننا لم نسهر منفردين، كلُّ له خليلته، فقد عقدنا صداقات خارج اطار المال والكلف ومشيئة القوادين مع نساء، وصار لكلٍّ منا خليلته وصاحبته، التي يصطحبها الى شارع الكورنيش على شط العرب، ويجلس معها في مقهى المربد، أو البدر، أو 14 تموز، في مفاخرة وزهو من لديه امرأة حبيبة.
وفي أول رحلة بحرية من ميناء المعقل الى القاعدة البحرية بأم قصر، الرحلة التي قطعتُ فيها أكثر من خمسين ميلاً بحرياً تعلقتُ بعلي بن محمد، صاحب الزنج، زعيم الثورة، (255ـ 270هـ) من يعلم لعل سمرة البعض من رجال ونساء الاسرة العبد العزيزية أتت من هؤلاء كنتُ محمولاً على زورق طوربيد روسيّ الصنع، ومن نافذته كنت أطل على غابة النخل والقرى، والزوراق المهملة، والصيادين الحيارى، والجزر المهجورة، والخلجان التي تختلط فيها اللغات. ليس الشعر ما نقرأه في قراطيس الشعراء، هو في المهاوي تلك، حيث تغرق الافئدة، وحيث تتشابك المجاذيف، وتتوارى الاسئلة. ولمّا خسرتْ سريتُنا الحرب في واقعة ام الرصاص شتاء 1986 في الحرب الايرانية العراقية، ولجأنا الى ارخبيلٍ مندرس في خور الزبير، على شط البصرة كنت قد أُستبيقتُ حارساً على الزوارق والقطع الحربية التي ملأت الشاطئيَن، مع من ظل من الجنود الجرحى والمندحرين، وعلى ضوء مصباح الزيت، على متن أقل الزوارق هزيمة كتبُ قصيدتي(تاريخ الاسى).
في معركة تحرير الفاو في نيسان من العام 1988 كانت سريتي العسكرية تبعد عن فوج المغاوير حيث يكون اخي،ثلاثة كليومترات، فقد كنا جندييّ احتياط، تم سوقنا بفارض زمني قليل، وكان مقرراً لنا أن نموت معاً، أو تفرق الساعات القليلة بيننا، لكنَّ شظية عملاقة استعجلته، ولن اتمكن من الاتصال به بعدها، وكذلك هو. مرَّ الاسبوع الاول بعد المعركة فعلمت أنه استشهد، وأنَّ فرق إخلاء الشهداء لم تتمكن من إخلائه، لذا يتوجب عليَّ أن انتظر. مع أنَّ أمي ظلت تلحف بالسؤال عنه.قبل العام 2003 كنت أقول قتل اخي في الحرب مع إيران، لكنني، اليوم أقول استشهد. نعم، لقد استشهد أخي في الدفاع عن الارض والانسان. يتوجب علينا القول: مرحباً بالموت إذا كانت الحرب موقفاً من الاذلال ودريئة بوجه الظلم.