TOP

جريدة المدى > عام > في البحث عن الزمن..رحلة تاريخية وفلسفية وفيزيائية

في البحث عن الزمن..رحلة تاريخية وفلسفية وفيزيائية

نشر في: 9 نوفمبر, 2022: 12:05 ص

لطفية الدليمي

الزمنُ مفهومٌ غامضٌ ومُغوٍ في الوقت ذاته، تكمنُ غوايته وغموضه في كونه واحداً من بضعة مفاهيم أساسية أولية ( بمعنى لايمكن إختزالها إلى مفاهيم أبسط، ولايمكن اشتقاقها من مفاهيم أخرى ؛ أي أنّ الزمن مرجعية قَبْلية للمفاهيم الأخرى وليست تلك المفاهيم مرجعية له ).

من هذه المفاهيم الأولية التي تشاركُ الزمن مرجعيته القبْلية: المكان، الوعي، الذات.

كان الزمن، وسيظلُّ، موضوعاً لدراسات بحثية معمّقة على الأصعدة التاريخية والثقافية والفلسفية والفيزيائية. أسبابٌ عديدة تسوّغُ استمرارية هذه الدراسات، منها:

- الزمن موضوعٌ تتقاطعُ فيه معظم الحقول المعرفية.

- الزمن هو أساس تجربة الوعي البشري.

- الزمن تركيب عقلي في نهاية المطاف وليس كينونة مادية مشخّصة توجد بمعزل عن الذات المُدْرِكة ( أو العقل الواعي بالتعبير الفلسفي التقني ).

- بقدر مايبدو الزمن كينونة مألوفة وملازمة للوجود البشري فإنه مفهوم يكتنفُ بأشدّ الغموض والتعقيد.

- الزمن هو أعظم مايهتمُّ لشأنه البشر حتى لو لم يعرفوا هذا. تجربة العمر – مثلاً – والاستحالات التي تترك أثرها على الناس لايمكن نكرانها أو إغفالها من جانب أي فرد بصرف النظر عن خلفيته العلمية والثقافية.

- الزمنُ ليس كينونة إنفرادية بذاتها بل يتلازم دوماً في هيئة ثنائيات: الزمن والمكان، الزمن والوعي، الزمن والذاكرة ؛ ومن هنا سحره الطاغي وجاذبيته البحثية.

نحنُ – باختصار – مخلوقات الزمن، ومتجذّرون فيه.

* * * * *

كثيرةٌ هي الكتب التي تناولت مفهوم الزمن، ومنها كتبٌ سبق أن عرّفتُ بها في موضوعات أذكر منها – مثلاً – كتاب ( نظام الزمن ) للفيزيائي العالمي كارلو روفيللي. قد يردُ مفهوم الزمن في فصول محدّدة من بعض الكتب، مثل كتاب ( العالم كما تفهمه الفيزياء ) للفيزيائي جم الخليلي. أحد الكتب المنشورة حديثاً والتي تستحقُّ قراءة مميزة هو الكتاب الصادر عن دار المدى بعنوان ( في البحث عن الزمن: رحلاتٌ في بُعدٍ مدهش )

In Search of Time: Journeys in a Curious Dimension

لمؤلفه دان فالك Dan Falk بترجمة أنيقة للدكتورة رشا صادق التي أضافت الكثير من الهوامش التعريفية للكتاب وساهمت في تعزيز مادته. يختلف هذا الكتاب عن الكتب الأخرى بكونه يقدِّمُ تناولاً شاملاً لمفهوم الزمن في سياق تاريخي وفلسفي وفيزيائي، وهذا مايمنحُ الكتاب قيمته الإثرائية للمعرفة العامة للجمهور القارئ. من المثير أنّ المؤلف يمتلك تحصيلاً دراسياً في الفيزياء والصحافة والكتابة العامة لجمهور القرّاء ؛ وعليه فإنّه يحكي من داخل المشغل الفلسفي والفيزيائي وليس متطفلاً عليهما.

يكتبُ المؤلف في تمهيده للكتاب عن الطبيعة الاشكالية للزمن فضلاً عن تأليف كتابٍ عنه:

« قُلْ للناس أنّك تؤلّف كتاباً عن الزمن وستتلقى ردود أفعالٍ مدهشة !..... هل ستكتب عن السفر عبر الزمن؟..... أؤكّد لهم أنّ كتابي يطرح أسئلة ساحرة عن طبيعة الزمن نفسه وعن الفضاء وعن قوانين الطبيعة. بعضُ الناس يخمّنون أنني أكتبُ كتاباً عن ( الفيزياء )، ولابدّ أنه سيكون تقنياً متخصصاً، فيه الكثير عن الانتروبيا وحدود العالم وماإلى هنالك. أطمئنُ هؤلاء: هذا الكتاب، على الأقل، ليس كتاب فيزياء فحسب. هدفي هو مقاربة أوسع للغز الزمن من إتجاهات متعدّدة....... «

يحتشدُ الكتاب بمفردات تقنية فلسفية كثيرة ؛ لكنّ فرادة المؤلف تكمنُ في قدرته على تحويل هذه المفردات من الفضاء التجريدي التقني إلى الفضاء العام عبر سرديات حكائية يمتلك زمام قيادتها بغية الامساك باهتمام القارئ. يضمُّ الكتاب إثني عشر فصلاً، تختصُّ الفصول الأربعة الأولى منها بموضوعة تاريخ الزمن، ومن عناوين هذه الفصول: دورات الزمن الطبيعية، البحث عن التقويم المثالي، تقسيم اليوم، الزمن والثقافة. الفصول الباقية تختصُّ بفيزياء الزمن وفلسفته، ولن يخفى على القارئ هذا التلازم الوثيق بين فيزياء الزمن وفلسفته إلى حدّ لايعود معه ممكناً تناول فيزياء الزمن بمعزل عن فلسفته، ولعلّ هذه الحقيقة تؤكّد الرأي الشائع أنّ الفلاسفة الحقيقيين في عصرنا هذا هم فيزيائيون بالضرورة. نقرأ في عناوين فصول الجزء الفيزيائي – الفلسفي: الذاكرة جسر عبر الزمن، زمن إسحق ( نيوتن )، زمن ألبرت ( آينشتاين )، العودة إلى المستقبل، البحث عن فجر الزمن، ماقبل البغ بانغ ( الانفجار الكبير )، كل شيء يجب أن يموت، الوهم والحقيقة. لابأس من الاشارة إلى حقيقة أنّ مفهوم سهم الزمن Arrow of Time – بكلّ أشكاله – يلعبُ دوراً مركزياً في هذه الفصول، وسيشهد القارئ أطروحات مثيرة في كيفية تعشيق هذه الاشكال مع بعضها.

سيشهدُ القارئ مع المضي في قراءة الكتاب حشداً من أسماء العلماء والفلاسفة، بعضهم من الأسماء المعروفة لعامة القراء أمثال: أرسطو، نيوتن، آينشتاين،،، وبعضهم الآخر لايعرفه سوى نخبة من القرّاء، ومن هؤلاء: روجر بنروز Roger Penrose، بول ديفيس Paul Davies، جوليان باربور Julian Barbour، ديفيد دويتش David Deutsch، لي سمولن Lee Smolin. سيجد القارئ الشغوف بعد إتمام قراءة الكتاب دافعاً قوياً للإستزادة من المعرفة بتفاصيل إضافية عن موضوعة الزمن عبر مراجعة كتب هؤلاء في قائمة القراءات الاضافية الموسّعة التي أوردها المؤلف في خاتمة كتابه، وكذلك في الكتب الحديثة التي نشرها هؤلاء ولم يذكرها المؤلف في قائمة المراجع الاضافية.

من الأفكار المثيرة في الكتاب تلك الخاصة بفكرة كلّ من نيوتن ولايبنز عن الزمن:

« إعترض عددّ من الفلاسفة على فكرة الزمن ( النيوتني ) المطلق، وجادلوا لمصلحة مفهوم علائقي relational للزمن ؛ أي بمعنى أنّ الزمن له معنى فقط من خلال علاقته بحركة جسم مادي. أحد أبرز مناصري هذا الرأي كان فيلسوفاً ورياضياتياً ألمانياً معاصراً لنيوتن هو غوتفريد لايبنز ( 1646 – 1716 )...... الزمن وفقاً للنظرية العلائقية هو – ببساطة - طريقة لمقارنة حدث ما مع حدث آخر وليس مستقلاً عن العناصر المادية التي تشكّل الكون....... “

حرص المؤلف على إيراد الكثير من الأفكار في سياق سردية روائية محببة للقارئ، حتى لكأنّ القارئ يكادُ يرى المشهد السردي حياً أمامه. هاكُم مثالاً:

« إلتقيتُ به ( جوليان باربور ) في منزله، وهو منزل ريفي عمره ثلاثمائة وخمسون عاماً، ذو سطحٍ من القش، مبني في قرية ساوث نيوإنغتون شمال أكسفوردشاير. دعاني إلى الحديقة حيث شربنا الشاي وتحدّثنا عن الزمان والمكان، عن الحركة والتغيّر، وعن ماخ ومينكوفسكي. إنطباعي عن باربور أنّه عالِمٌ وجنتلمان إنكليزي ريفي في آن واحد. تمّ لقاؤنا في أواخر الربيع، الشمس ساطعة وفق المعايير البريطانية، ورائحة أزهار الويستريا تفوح في الجو.... ثم انتقلنا إلى داخل المنزل كي نتناول عشاء من الهليون والخبز والزبدة والجبنة...... «

هاكمْ مثالاً ثانياً يختصُّ بآينشتاين:

« في بيرن يتجوّل الزوّار في الشقة المتواضعة التي عاش فيها آينشتاين خلال ذروة قدراته الابداعية، ويزورون الغرفتين حيث تناول وجبات بسيطة مع زوجته، وهدهد إبنه الرضيع كي ينام، وعزف على الكمان، وتخيّل كوناً جديداً. كان أصدقاؤه يزورونه على العشاء، ويتناقشون مطوّلاً. تحدّثوا عن الميكانيك والكهرباء، عن الساعات والأطر المرجعية، عن الفيزياء والفلسفة..... في دوّامة تلك النقاشات التي غذّتها السجائر والقهوة التركية بدأت بذور النسبية الخاصة تتولّد في عقل آينشتاين..... «

يمكنُ للقارئ بعد إتمام هذا الترحّل المدهش في الزمن أن ينتهي إلى خلاصة تتجوهر فيها آراء فلاسفة العلم والفيزيائيين المعاصرين، مفادُ هذه الخلاصة هي أنّ ملايينَ من سنوات التطوّر البيولوجي، فضلاً عن آلاف السنوات من التطوّر الثقافي واللغوي، شكّلت عقولنا بطريقة تجعلنا نتخيّلُ « جريان « الزمن رغم أنّ هذا الجريان غير موجود على أرض الواقع. إنه وهمٌ ليس أكثر، وقد خلق هذا الوهمُ معضلة يشترك فيها الفلاسفة وعلماء النفس. ربما سيتّضحُ لنا آخر الأمر أنّ ( جريان الزمن ) معضلة شديدة التعقيد تنتمي إلى صنف المعضلات الكبرى في حقلي الفلسفة وعلم النفس، وهي معضلاتٌ على شاكلة: ماهي الذات؟ وماهو الوعي؟

يختتم المؤلف كتابه بعبارة مؤثرة وذات قيمة دلالية كبيرة وردت في رسالة عزاء كتبها آينشتاين بتأريخ 21 آذار ( مارس ) 1955لعائلة أحد أصدقائه الحميمين، ميشيل باسو، الذي عمل معه في مكتب براءات الاختراع في برن العاصمة السويسرية قبل أن يصبح آينشتاين نجماً لامعاً. كتب آينشتاين في عبارته تلك:

« الآن، وقد غادر ( ميشيل ) هذا العالَم الغريب قبلي بقليل، هذا لايعني شيئاً بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين المؤمنين. الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهمٍ عنيد «

صدق آينشتاين في نبوءته تلك ؛ فقد لحق بزميله القديم بعد أقلّ من شهر عقب إرساله رسالة التعزية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

في مديح الكُتب المملة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram