طالب عبد العزيز
الماء الذي كان يطردنا فنذهب، هو الماء الذي كان يدعونا فنجيئ، حاملين البذور اليه، قائلين بحقه ما نشاء. على بوابته التي يثلمها القمرُ نقفُ، وبصوته الملجم بالأسماك وعيدان الغربِ نلتحف ونكون. نرقب النسوةَ، يأتينَ بالجرار الفخار ناضحةً، وبالخبز مرسوماً بين ايديهن، نحنُ الطالعينَ سمراً من طين آبائنا، نرتجفُ شوقاً لصدورهن، نحلم بالظفائر السُّود، يجوس أطرافها المطرُ، وتقطرُ على الكتفين.
يشدُّنا الماءُ الى الاوطان المهملة في الاشرعة، الى السواحل التي تغرقنا بالملح كلَّ سنة، فنقفز في المراكب، وفي عنابرها المظلمة نختبئ، وفي صناديق التمر نلهو ونضيع، وفي ثياب الملاحين الصفر نبحث عن سجائر كانت لنا، عن زجاجات خمرٍ أخفيناها عن أعين أشقائنا الكبار، الذين سبقونا الى هناك، الى حيث يشتبك النخل، ويندحر الليل وتنطُّ القبرات.
هذه الشمسُ باردةٌ، وما احتطبناه للغد لا يسدُّ حاجة موقد أمهاتنا الفاغر أبداً، الارانبُ تكوّرُ صغارها في الجحور، تحدثُ وقباً في الممرِّ الضيِّق، فتنخسفُ الارضَ تحت أقدامنا، ومن الجوف المظلم تهرب الكراتُ الصغيرةُ، بيضاءَ وسوداءَ ورماديةً. منذُ أنْ كانت العاصفةُ في نشرة الطقس هامدة ونحن نركض، نركض ضاحكين، ومتألمينَ نركض.. مقتفين أثرَ السلاحفَ الى المسناة، أحذيتنا على الصخرة الكبيرة، وأصابعُ أقدامنا تتراقصُ تحت الماء، وكلّما صرنا الى التراب صاعدينَ عُدنا، هذه الارض لم تُغمر بالقصب والحلفاء كما شِيءَ لها، يريد آباؤنا أن تكون أقدامنا نظيفةً، لكنَّ التوتَ الاحمرَ لا يُمحى بالماء، ورائحةَ الضفادع لا تَبلى بأوراقِ النَّارنج.
من كلِّ ما في الترع من قصب جئنا، وعن الشماريخ الرطبة أخذنا جرأةَ الوصول الى الأعالي ا، وكلما صرنا الى قيعةٍ في النخل تهدّلتْ سراويلُنا، وفضحتنا أقوالُ بعضنا. هذه الصباحاتُ تركضُ فينا، ونحن نصغرُ في الصفوف الاولى، أقلامنا ما تزال ملونةً، ولم نعتد مناداتنا باسمائنا بعدُ.. المعلّم يرسمُ كوخاً ونخلةً مائلةً وبقرة، ويخرق ظلام اللوحة بنهرين كبيرين، فيسمّي الأرضَ بلاداً، والناسَ أباءًا وأمهات وأشقاء .. فنخشى عليه من الماء، نخشى عليهم .. ففي كلِّ عام يغرق لنا أحدٌ، حتى صرنا نسمّي الايام باسماء الغرقى، والنخل بأسماء الصاعدين والنازلين منها، والنساء بالزوراق المهجورة على الشواطئ. المعلّم اكتفى برسم البلاد على اللوح الاسود ومضى.
على الصناديق الخشب وضعتنا امهاتنا وذهبن يلتقطن التمر، مع حشد من الرجال الغرباء وحين عدنَّ كانت الشمسُ رطبةً على ظهورهن وآباطهن، لكنَّ الظلال تزاور أجسادنا ما تزال، نحن المحشورين بالصناديق. على النهر الذي يضيق في منتهاه، وبالماءِ المُباح تغسل الامهاتُ أثداءهن قبل أنْ يرضعننا، كان الحليب ساخناً بطعم ماء المدِّ وحلاوة التمر، تذيبه الشمسُ قبل أوانها، ويخرسه فينا النعاسُ. صوت المؤذن بعيد جداً، ومنارة المسجد لا تُرى، وآباؤنا يذهبون ويرجعون، منذ الف سنة وأكثر، ولا يعبأون بالأيام، فهي ماءٌ منتَظم بقراطيسهم، وهي دوّارة المدِّ والجَّزر بأنهارهم، وأمهاتنا لم يُؤْذنْ بالرواح لهنَّ بعدُ، ففي النخل ما لا تقْدر عليه المناجلُ، ومما لا يُجمعُ بدوران الليل والنَّهار.
لم يفنَ الليلُ كما قال أبي، ولم تنلْ عصاهُ من النَّهار شيئاً، والى حيث كانت أغصانُ السفرجل والكروم صعدها الماءُ ثانيةً، وزادها ميساً وعصافيرَ، وكل ما اتينا عليه بمناجلنا من الحلفاء عاودته الفراشات. البرعم النائم بصدر المرأة انفجر في قميصها، أما الرجلُ الذي أطاحَ بالسعفِ اليابس وأخذه الى عربته فقد أنكره الحصان، كان الحملُ ثقيلاً، لمْ يُحسنْ عاملُه نضَّدَه. قلتُ، أسوي الى المُسناة طريقاً آخرَ، أفتحُ وقْباً جديداً في جحر الارانب، ولا استنقعُ الماءَ اليه، أتسلّى بما في مطر البارحة من كركرات ... الغابةُ الخُوصَاءُ تهجرني، فأنا، أفرُّ من أحلامها الى الكتب.