يصدر قريبا كتاب "عمارات: لمحة الى عمارة الحداثة ..وأخرى الى ما بعدها"، لمؤلفه د. خالد السلطاني،
وهو كتاب مكرس في البحث عن ظاهرتي "الحداثة المعمارية" و"عمارة ما بعد الحداثة"، وهو لهذا يتضمن فصلين اساسيين؛ الاول: خاص بعمارة الحداثة والثاني: يتناول نماذج عمارة ما بعد الحداثة. كتب تمهيد الكتاب الشاعر والاعلامي العراقي "حميد قاسم". وثمة مقدمة كتبها مؤلف الكتاب تتعاطى مع ظهور وخصائص وأهمية الظاهرتين المميزتين الآن في المشهد المعماري وخطابه. وفي الاخير يكتب المؤلف "ما قبل الخاتمة" وهي مادة من ضمن مواد الكتاب تسعى وراء اعطاء القارئ مسوغات الكتاب وتوضح محتوياته. ادناه نص مادة "ما قبل الخاتمة" الواردة ضمن محتويات الكتاب اياه.
القسم الثقافي
د. خالد السلطاني
أود أن أفصح للقارئ الكريم قبل ان "يغلق" آخر صفحة من كتابي "عمارات: لمحة الى عمارة الحداثة..وآخرى الى ما بعدها"، بأني أشتغلت على موضوعة الكتاب بطريقة، ازعم، بانها جديدة، اذ انها تتناول ظاهرتي عمارة الحداثة وما بعدها ليس باسلوب العرض الوصفي أو التاريخي وحتى النقدي لكلتا الظاهرتين (إذا إستثنينا مقدمة الكتاب الطويلة، الساعية لرصد هاتين الظاهرتين في الخطاب المعماري)؛ وإنما العناية بتفسير ظهور كلا المفهومين في المنتج المعماري المعاصر من خلال تمثلات حقيقية متمظهرة بنماذج تصميمية واقعية مستلة من المشهد المعماري العالمي. وهذة النماذج المتنوعة والمنشورة في فصلين يتضمنان اجمالي نصوص الكتاب، عكست الرؤى المتفردة لمصمميها الذين ابانوا عبرها فهمهم وإدراكهم الخاصين لهذين المفهومين. وقد لا يكون ذلك الادراك أو الفهم متطابقاً كلياً مع تصورات قارئ الكتاب عن مفهوم "الحداثة المعمارية" او "ما بعدها"، لكن الاطلاع على ذلك، كما نرى، يُعّد أضافة معرفية، يمكن بها إثراء ذخيرة القارئ بمعلومات جديدة صادرة من مبدعيين لهم مكانتهم المميزة والخاصة في مجالهم المهني: المجال الاستشاري المعماري. كما يتعين التذكير، بان تلك النماذج التصميمية المنشورة، هي في الاخير محض اختياراتي الشخصية، وبالتالي فهي غير ملزمة للقارئ بان تكون تمثيلا "أوحداً" لمقاربات تيار "الحداثة" او لمناهج "ما بعدها"، بيد أن حضورها ونشرها واصطفائها يبقى يمثل مادة للحوار مع قارئ الكتاب وموضوعاً للتواصل والنقاش معه.
يعرض نسق محتويات الكتاب المختار للقارئ مقترحا للقراءة يلائم رغباته ويتماشى مع اهتمامه في أسلوب يدنو من ما أدعوه بـ <القراءة التفضيلية>، وهي قراءة غير مقيدة او ملزمة بتسلسل تتابعي صارم يجاري ترتيب مفردات الفصلين، الذي يوصي بها مؤلف الكتاب. بمعنى آخر يمكن للقارئ ان ينتقي اية موضوعة من "ثيمات" الكتاب المتواجدة والمسجلة في فهرست الكتاب ومحتواه، ليطلع عليها ويقرأها كما يرغب، من دون أن يُؤَثِر ذلك الانتقاء الذاتي على مجمل مسار تتابع فكرة الكتاب وتسلسل هدفه المقترح من قبل المؤلف. وبهذه <القراءة التفضيلية> او الحرة، يستطيع القارئ التنقل بسهولة بين مواضيع عوالم عمارة الحداثة او سبر اغوار عمارة ما بعد الحداثة وكما يحلو له، من خلال الامثلة العديدة التى يعرضها الكتاب.
تكمن أهمية النماذج التصميمية المنشورة، في أن مواضيعها بالغالب الأعم وليدة زيارات ميدانية قام بها مؤلف الكتاب الى مواقعها المختلفة بمدن العالم العديدة. اذ تعنيت شخصيا بتفقد تلك الامكنة ومشاهدتها وهي في بيئتها المبنية الواقعية، تحدوني رغبة معرفية كبيرة للاطلاع اكثر على خصوصية احيازها ونظام ترتيبها والتعرف على تفاصيلها وادراك خاصية موادها الانشائية المستعملة وتميَّز الوانها، وما تمثل قراراتها التكوينية – الفضائية من جهد تصميمي جعلها لتكون حدثا مميزا في مجال اسلوبها المعماري وطرازها المهني. بالطبع كنت قبل زيارة هذا "ألاثر" المعماري المميز أو ذاك ، ادرك قيمته المعمارية ودوره الاستثنائي في تطور مسار الحداثة او في منتج ما بعدها من خلال اطلاعي الواسع عنه بحكم خصوصية مهنتي كـ "معلم"، درَّست لسنين (..لعقود من السنين!) تلك الامثلة وغيرها لطلبة كثر في مؤسسات تعليمية مختلفة؛ كما أن حبي وولعي بنشر المعرفة ولاسيما المعرفة المهنية، جعلني على اطلاع تام ومسبق عن قيمة تلك الامثلة وتقدير أهميتها . كنت احس بنوع من لذاذة وبهجة حقيقتين عندما ازور تلك النماذج التصميمية وأكون بالقرب منها، المس جدرانها بيدي، وامر متنقلاً بين احيازها المختلفة واعياً ومقدرا جهد مصمميها الذين أَكَنَّ لهم احتراما ومودة خاصين. وكنت دوما اطيل النظر نحو ما اجترحه اولئك المبدعون لنا من اعمال مدهشة واحيانا رائدة وغير مسبوقة، أَغْننت كثيراً ذاكرتنا البصرية، مثلما كرست وجودهم في المشهد المهني وخطابه. وبالنسبة لي امست تلك النماذج التصميمية بمثابة "اصدقاء" قريبين جدا الى قلبي، اعرف جيدا "احوالها" وادرك جيدا مكانتها في "لوحة" الاجتهاد المعرفي الانساني. وعندما، احيانا، لا اتمكن من زيارة "اصدقائي" / المباني المحببة اليّ في مواقعها الاصلية، اطلب من اصدقائي ومن "طلبتي" العديدين المنتشرين الآن في ارجاء المعمورة، ان "يمرّوا" على تلك النماذج المعمارية، وان "يلمسوا" بأيديهم جدرانها كايماءة <توصيل> تحية واعجاب مني شخصياً!
لقد اثمرت تلك الزيارات الميدانية التى قمت بها، الى مواقع نماذج المباني الكثيرة بمدن العالم المختلفة في الحصول على عدد وافر من الصور الفوتوغرافية التى التقطتها شخصيا لتلك الامثلة المعمارية. وقد استطعت ان اسجل تصويريا ومن مختلف نقاط نظر حالات تلك المباني وتفاصيلها الذكية وطبيعة موادها الانشائية، زيادة في التعرف على جدارة الحل التصميمي فيها وفرادة "اميجها" المشهدي. ومعظم الصور المنشورة في الكتاب هي حصيلة ونتائج تلك الزيارات (.. زيارات متعددة احيانا) لمواقع تك الامثلة المعمارية، هي التى أُعُتبر وجودها كنقاط مضيئة في مسار عمارة الحداثة وفي نهج عمارة ما بعد الحداثة.
كما اود ان اشير ، في الختام، الى مسعاي الذي اجتهدت في تحقيقه، بعرض "لوحة الوان" Palate لنماذج تصميمية متنوعة تابولوجيا وجغرافيا ومقاسا وقياساً، حرصت بان تكون متواجدة في الكتاب، هي التى اعدها معماريون اكفاء مختلفون اثنياً وعُمرياً، وكانت تلك التصاميم "لحظات" فارقة في المشهد المعماري العالمي، مثلما هي ايضاً في منتج كلا المفهومين: مفهوم الحداثة ومفهوم ما بعد الحداثة. واذ اعترف بان تلك النماذج المنشورة، سواء في الفصل الاول المكرس لعمارة الحداثة، بانها لا يمكن لها ان تعكس بموضوعية عالية كل تنويعات الحداثة بتياراتها المختلفة، مثلما تلك المشكلة لمحتويات الفصل الثاني، والتى ليس باستطاعتها ان تستوعب جميع طرز ومفاهيم عمارة ما بعد الحداثة، لكن مع هذا يبقى وجود تلك الامثلة التصميمية في الكتاب، وفي التنويع الذي تحدثنا عنه قبل قليل، قادراً ، كما نعتقد، في اعطاء لوحة بانورامية صادقة وواقعية تكشف خصوصية الحداثة المعمارية واسلوب ما بعدها.
كانت مقاربة الامثلة المعمارية المنشورة في الكتاب، وكما لاحظ القارئ الكريم، تعتمد على حضور نمط لاسلوب سردي متماثل، وظف بعناية في تناول الامثلة التصميمية المعروضة، وهذا النمط الاسلوبي وجدناه ملائما لتكريس اطروحة الكتاب وتحقيق اهداف ومغزى تأليفه. انها (اي تلك المقاربة)، تتضمن، عادة، السعي وراء اعطاء نبذة مختصرة عن المشروع والحديث عن نوعية ثيمته، ثم يتم "قراءة" خصوصيته المعمارية ونقدها بادوات ترجع الى اساليب ومفاهيم نقدية حداثية وما بعد حداثية، والتركيز على اجتهادات المعمار/ المصمم في تعاطيه مع مشروعه المبنى والمنفذ على ارض الواقع (وبالمناسبة فان الامثلة المختارة في الكتاب جميعها نماذج تصميمية منفذة واقعيا وليس بينها مشاريع لم تنفذ، أو بقيت محض "رسومات" على ورق؛ مع أن قيمة بعض المشاريع "الورقية"، وكما هو معلوم، لا تقل اهمية وتأثير عن بعض المشاريع المنفذة!). بعد ذلك يتم الحديث، وإن بختصار، عن سيرة المعمار / المصمم وذكر تصاميمه الآخرى. وهناك ملاحظة يتعين التذكير بها، مفادها بان ثمة تكراراً يحصل، احياناً، في ذكر السيرة الذاتية للمعمار / المصمم الذي "يتكرر" عمله المنشور في الكتاب. وهذا التكرار المقصود للسيرة توخينا به المحافظة على النمط الاسلوبي الموحد في تناول النماذج التصميمية، وفي نفس الوقت اخذنا في نظر الاعتبار خصوصية "القراءة التفضيلية" (التى تحدثنا عنها قبل قليل)، والتى قد يلجأ اليها القارئ في مطالعته للكتاب، من دون الزام نفسه في تتابع تسلسلي، مثلما هو مثبت في نسق محتويات الكتاب.
وأخيراً، فان الهدف الرئيسي من جراء نشر هذا الكتاب يظل منوط بمهام نشر المعرفة المهنية (المعمارية على وجه الخصوص)، تلك المهام التى سعيت دوماً الى تحقيقها عبر نشاطي المعرفي والتوق الى تكريسها في المشهد المعماري المحلي والعربي. ولئن وجد قراء هذا الكتاب، منفعة مهنية ما .. او حتى "متعة قراءة" جراء مطالعـة هذا الكتـاب، فأني أعتـبر بان جزءًا هاماً من رسـالتي المعرفية بنشر الثقـافة المعـمارية قد .. أُنجز .