د.محمد حسين حبيب
2-2
مسرحية (عندما تنتهي تسقط) ايران، اخراج عبد الهادي الجرف
من عنوان العرض (عندما تنتهي تسقط) نقبض على بداهة في المعنى، فمن الطبيعي ان النهاية تعني السقوط أو السقوط يعني النهاية،
لكن الأهم في هكذا جملة هو محاولة النهوض من جديد بعد هذه النهاية أو هذا السقوط، استنادا على جملة متداولة تقول: (قد يتحطم الانسان لكن من الصعب أن يهزم)، وكان العرض في نهايته يسعى فعلا لمثل هذا النهوض فعلا بالادانة وبالرفض / بعد استعراضه لكل هذه الوثائق التاريخية الجرمية بحق الانسان وانسانيته التي ينبغي.
بعد أكثر من عشرين عاما في المسرح العربي، تعرضت استثمار لغة الجسد مسرحيا الى وقوعها بين مسارين: الاول كونها ظاهرة مستوردة أنعشت جماليات الاداء الجسدي وحلقت بنا نحو عوالم ابداعية مبتكرة وساحرة، والثاني يكمن في كونها موضة ليس الا لكي يساير بها المسرحي هذا الاستثمار دون الغوص في حيثيات هذه اللغة الجسدية دراسة وتمرينا وانتاجا للمعنى الذي ينبغي توفره في مثل هذا الاستثمار.
في هذا العرض الذي أجده انه وقع في المسار الثاني، اي في مسايرته للموضة الرائجة التي هيمنت على خطاب العرض، سعيا من صانعه – كاتب السيناريو ومخرجه عبد الهادي الجرف – الى التوصل للدمج بين ماهو حواري تقليدي اولا، والاستعانة بالرقص الدرامي ثانيا، لتحقيق عوالم مسرحيته التي تسللت الينا عبر تحولات مشهدية مونتاجية متحولة شكلا ومضمونا وصولا الى نهايتها الوعظية الحوارية بعد أن أخذ الاداء الجسدي مساحته الأكبر في هذا العرض.
في البدء كان الرقص، جملة تختصر جميع التنظيرات المعرفية التاريخية التي أسست للجسد لغة واستثمارا مبتكرا في المسرح الحديث والمعاصر، نعم، قبل اللغة كانت الايماءة، كان الرقص، لدرجة ان البعض من المشتغلين ممن انغمسوا في هذه الظاهرة آمنوا بأطروحة (أنا أرقص اذن أنا موجود) أكثر ايمانا من الاطروحة المشهورة (أنا افكر اذن موجود) لأنهم وجدوا ان الجسد الذي يرقص يفكر هو الاخر لينتج فكرا دراميا مغايرا للفكر الدرامي المستهلك والتقليدي، استنادا على ان (الحركة هي ميزان الروح) بحسب مارتا غراهام، وتأسيسا على طروحات بينا باوش التي ترى في المسرح الراقص هو درامي في المقام الاول، لأنه يختزل كل شيء بالجسد، وترى ايضا بانه: " ليس مهما كيف يتحرك الناس لكن المهم ماالذي يحركهم؟... لان الرقص طريقة مختلفة للتعبير عن الأشياء "، السؤال: هل كان عرض (عندما تنتهي تسقط) واعيا قابضا مستنفرا مؤمنا بمثل هذه الطروحات؟.. ومن تعريفات العرض المسرحي لايرفنج غوفمان يقول: " العرض المسرحي هو المكان الذي تستهلك فيه معظم الطاقة ".. ولكن المهم النتيجة، فهل تم استهلاك طاقة الممثلين الجسدية والمضنية حقا في هذا العرض لتنتج لنا جمالا وفكرا؟ أم ذهبت هذه الطاقة هدرا وتشتتا للمعاني المنتظرة؟
عبر نموذج العرض اقول، يبدو ان تجربة المسرح الاهوازي، او المسرح في الاهواز لما تزل شبابية واعدة لكي تخوض غمار المسرح الدرامي الراقص، أو انها في بدايات هذا التعامل مع هذه الظاهرة، لا الموضة، وهذا الامر يحسب للفرقة ولصانع العرض ولجميع المؤدين والممثلين الذين انغمسوا في حبهم واستعدادهم وانتمائهم بحسب ماتوفر لهم من خبرة شبابية واعدة تسعى الولوج لافاق هذا الفن الصعب المرتكز على الكروغراف لتصميم واخراج الحركة على المسرح، لكن هذا الحب وهذا الاستعداد لم يكونا كافيين ليظهروا لنا عرضا بعيدا عن السطحي والهامشي في التعبير لدرجة العمل بما هو يومي وواضح ومتداول ولايحتاج منا التأويل والاكتشاف لنصل الى الدهشة.
أحيانا يقع صانع العرض بما نسميه الوهم الاخراجي، بمعنى انه يعتقد ان كل ما فكر به سيستقبله المتلقي كما اراد، فيحدث العكس تماما، فلا يمكن والحالة هذه ان يضع المخرج كل شيء في عرضه، حتى لايتحول العرض الى ساحة لعدد من الصراعات الدرامية المركبة بين اطراف مختلفة متحولة متداخلة في مهامها وفق سيناريو حافل بعدد كبير من الملفوظات والافكار والاشياء، مثل: (السقوط في التكرارية الادائية / صراخ / نباح / لهجة شعبية / لغة فصيحة / ملفوظ اجنبي / هاي هتلر / بتر كصايب / سيرة حياة امرأة خلف القضبان / شلع قلع كلهم حرامية / التراب / الرشوة / الهجرة / جنود / الوطن / العفطه / اريد امي / عيونها السود / الدود / مذكرات جندي حرب / اغتيال / السلام / تساؤلات / ادانة / وعظيات / لحظات اظلام متكررة).. كل ذلك وغيره يجعلنا نحاول الجمع بين هذه التشكيلات السمعيبصرية المنظرية والادائية للقبض على الرابط الجامع المانع بينها، الذي تصب فيه الوحدة الموضوعية لفكر العرض وفلسفته.. وحتى لانقع في (خلطة) من المشهديات الفاقدة لمسوغاتها الدرامية، خلطة من الحوار والحركة والتشكيل الادائي والضوئي والموسيقي دونما ماسك او دفة راكزة هي التي تقود هذه السفينة المنظرية المتلاحقة والمتراتبة في تسلسل جزئياتها.
ليضعنا العرض في النهاية في منطقة الوعظ والخطابيات والتساؤلات، نعم ان العرض أدان الجرائم والعنف والقسوة بحق بني البشر وسعى لايصال رسالته الواضحة كما نوهنا لكننا لم نكن ننتظر من العرض ان يعطينا تعريفا او درسا لمعنى (الله) سبحانه وتعالى واين يمكن ان يوجد؟ وان الله هو الحب وهو السلام، لكي نعود الى البداهة مرة اخرى مثلما ابتدأت في عنوان العرض.