اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: بلبل ميسان

مرساة: بلبل ميسان

نشر في: 15 نوفمبر, 2022: 11:26 م

 حيدر المحسن

هي بلدة «العمارة»، مدينتي، والتي لا أظنّ أن علاقة تجمعها مع تلك المملكة النّائمة في كتب التاريخ، وصار اختيارها في العنوان لسهولة اللّفظ وخفّة الجرس...

أفضل تجربة هي تلك الحياة التي يتلقّاها المرء في الرّحلات، فالأفكار الجيدة تحتاج غالبا إلى مشاهد جديدة. سافرتُ من العاصمة بغداد قاصدا مدينة الموصل، وكان يصحبنا أنا وسائق التاكسي بلبل في قفص من بساتين "العمارة". توجد بلابل في الموصل بالطّبع، وطائر بغداد معروف بشدوه، لكن الرّجل الموصليّ صاحبَ الطّلب أصرّ أن يكون عصفوره عماريّ الصّوت والصّورة، والقفص الذي يضمّهما كذلك، وها هو الطّائر يشغل مكانه في المقعد الأمامي، وأسمع رفّة جناحيه بين حين وآخر، وكلّما قطعت عجلة (الأوباما) شوطا من الطّريق اتّصل الرجل الموصليّ بالسّائق عبر الهاتف، ليطمئنه على حال طائره. أنا لا أعرف شيئا عن عالم الطّير، ربّما كان اختلافا في النّغم عُرفتْ به طيور تلك البلدة هو السّبب في رحلة البلبل الذي أنجبته وربّته وأنشأته، مثلي، بساتين "العمارة". يقول غوته: "من أراد أن يفهم الشّاعر حقّ الفهم، فما عليه إلاّ أن يزور بلاده". كان بيت أبي في العمارة يقع خارج المدينة، في الرّكن الجنوبي الشّرقي من بستان عائشة، ويتوسّط حديقة واسعة تحيط به من جهاته الأربعة. الحال إذن يشبه السّكنى في بستان داخل بستان. النّحل يطنّ من غصن إلى غصن، ويجلجل في أذن الطّفل، وكلّ جلسة في الغيضة هي مغامرة للتّعرّف على أصوات أنواع العصافير والحساسين والقبّرات والدوريّ والفخاتي، بالإضافة إلى البلابل. إنه الوقت الهادئ في اليوم، الضّحى والظّهيرة وما بعدها، وغيوم كبيرة تتحرّك سريعة في السّماء، ويصغي الطّفلُ بالإضافة إلى ذلك إلى صوت الهزيز تنثره أركان الرّيح الثّمانية، وكأنّ مصدرها جميعا مدينة العمارة. رياح وبساتين ونهر، هذا هو التعريف البسيط والشامل لمدينتي. رياح قويّة وبساتين في جميع الجهات، وكذلك الأنهر. وكان عقل الطّفل يمتلئ وهو يلعب في الحديقة بزهور من كلّ نوع. أزهار وأزهار وأزهار، كأنّنا في حلم، على بساط من الحشيش النّاعم تثير الأقدام عطره. مرهف الآذان لأيّ صوت، يتسمّعُ الطفل العزيفَ والحفيف وأصوات نموّ النّسغ وارتفاعه في الغصن. نحن الآن في عمق الرّبيع، والنسيم يهبّ رخوًا، والجداول تبعث خريرها وتموّجها في نور الشّمس. بينما تمضي عيون الأسود الحجرية في سياج النافورة تحدق فيه، تُدهشُ الطفلَ أصواتُ ذرّاتِ اللّقاح تطير من الأزهار، وتحتكّ ببعضها بعضا في الهواء. لا يوجد أشخاص في سريرة الشّاعر، لأنّه وحيد، ولأنّه يقضي جلّ وقته في الحديقة، فصارت الحياة تقع ضمن أسوارها البديعة الأربعة. وإذا كبر الصّبيّ وخرج إلى الدنيا كانت أقدامه تجول أغلب الوقت في دروب خضراء. العمارة هي أرض البساتين والأنهار؛ بستان «جاني»، بستان «جنبد»، بستان «عائشة». نهر المشرّح، نهر الكحلاء، «البتيرة» والمجر الكبير والصّغير والهدّام والعدل والموزر والواديّة... وتتفرّع هذه إلى نهيْرات وسَوَاقٍ تنتهي إلى جداول وبحيْرات شاسعة تشبه البحر. أزهار... أزهار... "واحدة منها في طريقها إلى أن تكون امرأة"، كما يقول الشّاعر علي عيدان، ابن مدينة العمارة. يطوّف الشّابّ في العالم، ويتمتم قصيدته الأولى، وكان يقولها كأنّما في حديقة البيت: "يا ورد الجوري يا كفّا مفتوحة أحمر أصفر أبيض أو لونا يشبه ضياعَ فتاةٍ وفتى أو لونَ تشابه كفّينْ". أزهار. أزهار. وعندما يشتدّ عود الفتى ويشاء أن يبتني بيتا يحمل اسمه، يكتب عندها قصيدة عن حياته الجديدة عنوانها «عائلة»: «كلّ شيء مثلما كان ولكن، بجوار الشبّوي زرعوا بنت القنصل». في كلّ سنتمتر مربّع من البيئة التي نشأنا فيها، أنا والبلبل رفيق رحلتي، ما يكفي لجمع باقة ورد مختلفة الألوان، والرّجل الموصليّ مُحقّ إذن في إصراره على سماع ألحان بلبل عاش في أجمل بستان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram