TOP

جريدة المدى > عام > حكاية الجنرال مع المكتبة

حكاية الجنرال مع المكتبة

نشر في: 19 نوفمبر, 2022: 11:02 م

كه يلان محمد

يجربُ الفنان اختيارات متعددة للتعبير عن أفكاره والتشفير لرسائله المبثوثة في ظلال الألوان.ويغامرُ بإعادة بناء المعطيات بأشكال متنوعة.طبعا يكونُ الغرض من كل ذلك هو الإبانة عن موقفه حيال الواقع ومايشهدهُ من التحولات إذ قد ترى لوحة تشكيليةً لمكتبة فارغة من الكتب وتحلُ السلع الغذائية محل المصنفات المجلدة في رفوفها أو تبدو فيها الأجهزة الألكترونية متصدرةً للإطار فيما تلوحُ من بعيد أشباحُ تحاكي شكل الكتاب.

بالطبع هنا يذهبُ التأويل إلى أنَّ الفنان قد أراد من خلال تركيبته الإبداعية لفت الانتباه إلى انسحاب الكتب من قائمة اهتمامات الإنسان المُعاصر مقابل تضخم الرغبة الاستهلاكية والافتتان بالرفاهيات المتوهمة،ولكن ماذا عن المكتبة التي يقع عليها النظر في الواقع وهي خلت من الكتب وتصطدمُ العينُ بفراغ رفوفها الخاوية وتتفاجأ بخشبها العاري؟ هل يتم التعويل على آليات التأويل من جديد لفك هذا اللغز؟ هذا الأمرُ ليس افتراضاً بقدرِ ماهو حقيقة قد عاينتها شخصياً.وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود على تاريخ هذا الحدث لكن المشهدَ لايزالُ ماثلاً في الأذهان.ومازاد من حجم الفراغ وإدراكي بالوحشة أنَّ هذه المكتبةَ كانت عامرة بالعناوين من بينها مجلدات غلافها مزينة بالزخارف وقد عاصرتُ توافدَ بعض المصنفات إلى رحابها كما أنَّ قسماً آخر من مكوناتها قد أخذ الموقعَ في أيام والدي قبل أن أكون شيئاً مذكوراً.إذن استغرق إنشاء المكتبة تاريخاً وأضيفت عناوين حديثة إلى محتوياتها على مرَ الأيام.إلى أن أصبحت هوية للمكان.

الثكنة

لا أتذكرُ بأنَّ والدي كان يهتمُ بشيء قدر اهتمامه باقتناء الكتب والاحتفاء باكتشافات جديدة.وقد تميزَ بالمرونة في قراءاته صحيح أنَّه كان يميلُ أكثر إلى أدبيات دينية وعرفانية لكن يتجاورُ في لائحة عناوينه "في ظلال القرآن" لسيد قطب مع أسس الفلسفة الماركسية.لف.أفاناسيف ترجمة عبدالرزاق الصافي.أكثر من ذلك كان مهتماً بمواكبة فتوحات فكرية ومتابعاً لإصدارات جديدة حول تفسير النصوص الدينية وكنت أراه منكباً على قرأءة فلسفة التأويل لنصر حامد أبو زيد قبل أن يحظى الأخيرُ بالمقروئية لدى النُخبة ويتمَ تدوير اجتهاداته تحت مسميات مختلفة.كما أنَّه لم يفوت الفرصة للانفتاح على الأعمال الاكتشافية للكاتب الجزائري "محمد أركون"إذ أعجبهُ جدا نقاشُ صاحبُ مشروع نقد العقل الديني مع القامات الفكرية في الغرب.غير أن الكاتب المصري عباس محمود العقاد كان بمثابة الأنموذج الأعلى بالنسبة للوالد لدرجة قد اتخذه شيخاً له. ربما في مناسبة أخرى نعودُ للحديثِ عن الخلفية المعرفية لصاحب المكتبة وتآنُسه مع العنوان المرافق له وسط حشد من الناس فكان البحثُ عن الفرصة لمتابعة القراءة والانهمام على الكتاب جزءاً من ثقافته اليومية.كما أنَّ وضع المُؤَلف في غلاف ورقي صار لديه طقساً للقراءة.إذن لم يكن هناك مايزاحمُ مقامَ الكتب في حياة الوالد، لذلك فإنَّ رؤيةَ المكتبة وهي تحولت إلى هيكل خشبي.كانت بالنسبة إليه حالة كابوسيةً، ومع أن حملةَ النهب قد طالت غيرها من أغراض البيت المتواضع لكن حسرة الوالد لم تكنْ إلا على الكتب التي تشهدُ على زمنه الفردي الذي يمتدُ من أيام كان فيها طالباً للجامعة وصولاً إلى التحاقه بمجال التدريس.وفي غضون هذا العمر كان الكتابُ لم يغبْ من أفق أوقاته،وكثيراً ما سمعته يقول بأنَّه لو تمكنَ كان يشتري الوقت.وفهمتُ مغزى هذا المقول لاحقاً.وأدركتُ قيمته أكثر عندما قرأتُ رأي أندريه بريتون عن القوت بأنهُ ذهبنا الوحيد.والمُستغربُ في حادثة المكتبة أنَّ ضابطاً عسكرياً قد أخذ الكتبَ معه وتركَ الخشبَ عارياً من المحتوى الذي كانَ النظرُ إليه يضاهي سياحة فكرية إذ يتنزهُ البصرُ بمشاهدة موسعة العقاد الإسلامية والتفسير الكبير، والكشاف، والمنار،والمثنوي.هذا ناهيك عن لسان العرب.على أية الحال لسنا بصدد إحصاء العناوين.مايجدرُ بأن يطرحَ السؤال بشأنه هو اهتمام الضابط العسكري بالكتب وهو مسؤول عن قيادة عدد كبير من الجنود. هل يتسع وقته للارتحال بين هذه المؤلفات؟ حسب رواية بعض الشهود قد أقامَ هذا العسكري في بيتنا واتخذه ثكنة بعد مُغادرتنا لمدينة السليمانية خلال ما عُرفَ بالهجرة المليونية في عام 1991 وفي الحقيقة إن الإنسان يقع في هذه المنطقة بين رحى السياسات الاستبدادية والصراعات الملفعة بديباجات قومية ودينية، وما إنْ تذهبَ السكرةُ وتأتي الفكرة حتى يتبينَ للجميع إن المحركَ للتناحر والاحتراب ليس إلا البحثَ عن المقعد الأقرب للغنائم. والأدهى من ذلك إن من لاينجرفُ مع موجة الشعارات الجوفاء ولاينضمُ إلى جوقة الإستعراضيين سيكونُ مكانهُ الهامش وبالطبع أن قساوة هذا الوضع أشدُ تأثيراً على من يهمهُ الحفاظ على الاستقلالية الفكرية ويأبى التبعية للمتاجر السياسية. ولكن مايكسب المرء مناعةً في هذا الوسط الموبوء بالعاهات الذهنية هو التمردُ على مبدأ النفعية في الاشتغالات المعرفية.من الواضح أنَّ الحديث عن السياسة مرهقُ ومملُ لذا حريُ بنا العودة إلى حكاية الجنرال مع الكتب فمن المتوقع أن يصادرَ الذهب والمال خلال الاقتتال والحملات العسكرية غير أنَّ المكتبة غالباً إما ان يُصْرَف عنها النظر أو تُدمرَ لذلك فإنَّ قرار الجنرال بأخذ الكتب معه مثيرُ للإعجاب بقدر ماخلفَ الألمَ في الأنفس.يحسبُ له أنَّه لم يحرق المكتبةَ كما فعل ذلك المغولُ بمكتبات بغداد.لاشكَ إنه كان عارفاً بقيمة الكنز المعرفي وإلا كيف تجشمَ عناء هذا الاختيار في زمن حارق؟.والسؤال الذي لايغادرُ الرأس هل تصفحَ الجنرالُ محتويات الكتب؟هل قرأَ ما دونَ عليها من الملاحظات وتاريخ اليوم الذي اشترى فيه الوالدُ كتابه الأثير؟ هل أمهل القدر ذلك العسكري لقراءة جلَّ ما اغتنمهُ إن لم يكنْ كله أو قضت عليه الحرب؟

الترميم

يفترضُ بأنَّ من ذاق مرارة فراغ المكتبة وخلو رفوفها من العناوين أن يفترَ غرامه بالكتب ولايبادرُ من جديد بإعادة البناء.لكن الوالد بخلاف هذا التوقع بدأَ بجمع الكتب من جديد وأرادَ استعادة مافُقِدَ ولم ينقطعْ توافد العناوين إلى فضاء البيت وما إن مرت سنواتُ حتى صرتُ مشاركاً في اقتناء العناوين مع وجود التباين في الأذواق والاختيارات فإنَّ اهتمامي منصبُ من البداية على الأدب وقراءة الروايات باللغة الكردية والعربية.غير أنَّ هذا لم يكن مانعاً من إضافة بعض العناوين من الأدب الصوفي والديني إلى حاضنة المكتبة المرممة.وانفتحت اجزاؤها على أسماء جديدة منها أمين معلوف، طاهر بن جلون،إدوارد سعيد،فاطمة المرنيسي، محمد عابد الجابري،جورج طرابيشي،هاشم صالح. وماهو قمين بالذكر أنَّ الوالدَ قد شرعَ بالكتابة بعد حادثة المكتبة إذ نشرَ سلسلة من المقالات عن الشاعر الكردي بابا طاهر العريان كما ترجمَ قصائد نخبة من الشعراء الكرد إلى اللغة العربية.والآنَ عندما أتذكر صورة المكتبة الفارغة أتفهم السر في رغبتي لجمع مزيدٍ من العناوين وافتراشها على الأرض بدلاً من رصها على الرفوف ربما هذا يكونُ رفضاً للتعامل مع الكتب على أنها من الكماليات أو نتيجة لفوبيا الغراغ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram