ستار كاووش
هل سمعتم بشرفة أوروبا؟ ربما يبدو الإسم غريباً بعض الشيء، لكن هذه الشرفة الممتدة طويلاً، موجودة فعلاً، وهي تلتمع كالجوهرة كل يوم تحت شمس مدينة دريسدن الألمانية. وأُطلقَ عليها هذا الإسم لأنها تتمدد مترامية الأطراف بمحاذاة نهر إلبه الذي ينكشف تحتها مثل المرآة، حيث تبدأ من جسر أوغسطس وتنتهي عند جسر كارولا،
ويبلغ طول هذه الشرفة خمسمائة متر وعرضها يتراوح بين عشرة أمتار وأربعين متراً، فيما يبلغ إرتفاعها عشرة أمتار. كانت فرصة رائعة أن أتجول وأقضي بضع ساعات هناك بين ربوع هذه التحفة الممتعة التي تختصر مكانة وفن وتاريخ مدينة دريسدن. كان عليَّ صعود السُلَّم الواسع الذي يودي الى أعلى الشرفة، وهو محاط بأربعة تماثيل وضعت على زواياه الأربع، وقد أنجز هذه التماثيل النحات يوهانس شيلينغ سنة 1868، حيث يشير النصب الذي في أعلى اليسار الى الصباح، والموجود أعلى اليمين يمثل الظهيرة، والذي على جهة أسفل اليسار فهو يمثل الظهيرة، فيما يُعلن العمل الذي في أسفل اليمين عن الليل، وكإن هذا النحات أرادَ القول بأن هذه الشرفة يجب أن تكون مفتوحة طوال الليل والنهار. وكان يحيط ببداية المدرج تمثالان لأسدين من الحجر، لكنهما إنتقلا الى الحديقة الجنوبية الواسعة لتوضع بدلاً منهما تماثيل شيلينغ بعد أن أعيد تصميم المدرج ليناسب التماثيل الأربعة.
صعدتُ الدرجات على مهل، وكلما مضيتُ نحو الأعلى، كلما بان النهر تدريجياً، حتى وصلتُ الى سطح الشرفة، فأشرقَ المكان كإنه حي من أحياء المدينة معلق فوق البنايات القديمة، مصطبات وكراسي وحدائق صغيرة، وطرقات للمارة، رسامون جوالون يرسمون البورتريهات وقطع نحتية توزعت هنا وهناك، مشيت في الجهة المحاذية للنهر، أترقب الناس والمارة والبنايات القديمة وحتى المراكب الكبيرة وسط النهر، ثم انتقلتُ الى الحافة الأخرى لأرى كيف إفترشت المطاعم والمقاهي تحت هذه الشرفة. وفي منتصف الطريق تقريباً إستوقفتني بناية قديمة كُتِبَ على واجهتها أسماء دافنشي ومايكل أنجلو وروفائيل، ماذا يفعل فناني إيطاليا هنا؟ رفعتُ رأسي أكثر وإذا بها أكاديمية فنون ستيدلك العريقة تنتصب بكل فخر بمحاذاة الشرفة (هناك متحف شهير في هولندا يحمل ذات الإسم)، تراجتُ قليلاً لأتبين المكان جيداً وأذا بتمثال ذهبي لملاك ينفخ بوقاً، يلتمع فوق بناية الأكاديمية العالية وتحت أشعة الشمس التي منحته شيئاً من الحياة، مضيتُ نحو الجهة الشرقية للشرفة، لتظهر لي البناية التي كانت المستودع الكبير لأسلحة المدينة، وهي بناية مذهلة على طراز الباروك، وقد إنتصب فوقها مجموعة من تماثيل المحاربين.
لا يمكنك هنا التوقف عند كل التفاصيل، فقد إحتوت الشرفة على الكثير من الحدائق والبنايات المذهلة والتحف الفنية والنصب التذكارية والتماثيل، وفي النهاية توقفتُ أمام نصب تذكاري يُشير للرسام كاسبر فريدريش، والذي أنجزه بيتر بيرغمان، ويظهر في جانب منه لوح من البرونز كُتبَتْ عليه كلمات هذاالفنان العظيم (على الفنان أن لا يحاكي ما يراه أمامه، بل أن يرسم ما يراه داخل نفسه، لذا على الفنان أن يتوقف عن الرسم إن لم يرَ الأشياء مضيئة داخل نفسه) وقد تم إفتتاح هذا النصب سنة 1990 بمناسبة مرور 150 سنة على وفاة هذا الرسام الذي إحتوت لوحاته على الكثير من الرومانسية والغموض.
أكملتُ طريقي نحو نهاية الشرفة، ووقفتُ متطلعاً الى السحر الذي تركته ورائي. يالشموخ المكان الذي يشعرني برفعة الانسان وجمال ما تصنعه يداه وفكره وعقله. إبتعدتُ قليلاً حتى بانت الشرفة كإنها معلقة في الهواء على ضفة النهر، بينما الناس يجوبون المكان ويتفحصون تفاصيله، يملؤون المصاطب والكراسي وأماكن الجلوس الأخرى، ويعيدون أبصارهم متطلعين الى النهر الذي منح المدينة شخصية متفردة. نزلتُ من مدرج الجهة الأخرى ليواجهني متحف الفن الحديث وقد عُلقت على واجهته إعلانات لبعض اللوحات، وسأتفرغ يوم غد ببهجة، لمشاهدة محتوياته النادرة.
تم بناء هذه الشرفة في القرن السادس عشر لأسباب عسكرية من أجل تحصينات مدينة دريسدن، لكن مع الوقت والتطور أُهمِلَتْ مكانتها العسكرية، وصارت جزء من معالم المدينة بعد أن أصدرَ الأمير نيكولاي فولكونسكي (بعد إنتصاره في معركة لايبزغ) أمراً بفتح الشرفة لعامة الناس، بعد أن كَلَّفَ المعماري جوتلوب ثورماير ببناء مدرج خارجي في الجانب الغربي من الشرفة كي يستعمله الناس للصعود والتمتع بهذا المكان الإستثنائي.