ياسين طه حافظ
مع إيماني المطلق بضرورة التخصص لأي كلام يوجه إلى جمهور، فأنا أجد في أحيان مفيداً كلام أو ملاحظة من هم خارج هذا التخصص.
فملاحظات من هذا القبيل تتصف ببراءة أو بتلقائية قد تفوت المهتم بمرجعياته. هي، أعني هذه الملاحظات، شبيهة بتلك التنبيهات التي قد يشير لها المرضى، فيجد فيها اطباؤهم مخرجاً أو عوناً.
هذه المقدمة يمكن أن تكون مقدمة لكثير من الموضوعات. وقد يعجب القاريء من اني اتحدث عن الرواية المعاصرة! كيف جاءت الرغبة في حديث مثل هذا، عن الرواية؟ ربما لأني أعيد قراءة حارس حقل الشوفان بترجمة عربية ثانية وبعنوان حارس حقل الجودار.
لا تعنيني الآن الترجمة، ولست مقارناً أو مدققاً، ولكني بصدد التفاصيل الصغيرة، الشخصية، التي تخص الطباع، الرغبات، الأذواق السلوك والتصرفات، العواطف، والعادات الخفية أو اللا معلنة، وبايجاز أخلاقنا وشخصياتنا على حقيقتها!
هذه مسألة، تبدو لي اليوم، وإثر هذه القراءة، غاية في الأهمية. روايات أخرى صدرت في السنوات الأخيرة تنحو هذا المنحى، ومع اهتمامات مزدوجة، للشخصية وهي منفردة أو ضمن طليعية عامة. لعل خماسية باتريك بيلوروز آخر ما قرأت تقدم مثالاً آخر مختلفاً في هذا الشأن.
لا يعني كلامي أن أموراً كهذه جديدة على الفن الروائي، كثير منها كنا نمر عليه، وكثير منها رسم شخصيات نتذكرها من روايات القرن التاسع عشر والعشرين. بعضها كان انسانياً، اعني عن الشخصية البشرية وبعضها عن مفردات الحياة اليومية التي تخوض فيها، وبعضها عما في الظرف المجتمعي والطبيعة. بعض هذه الروايات اتخذت مهمة الكشف عن تفاصيل المنغصات وردود الافعال. بعضها لكشف مصدات تحول دون الابتهاج في العيش، وبعضها حمَّل النص أو الشخصية مهمات الصراع الاجتماعي، فرأينا روايات فجائعية تحس من وراء فصولها موت أو دمار إنسان مؤمناً بالأنقاذ أو متوهماً لقدرته عليه، أو فاقداً للقدرة على تحمل السوء، فيضيف خسارة أخرى....
لكني اريد التأكيد على حضور التفاصيل الشخصية، سلوكيات، رغبات، مُثلاً وحقيقتها، أو ما وراءها. عن المفردات البعيدة التي لا نراها في الغرف المغلقة، وتلك التي تثيرنا في العلن. أعود للتأكيد أني لا أقصد منتجات التقليد الدرامي والذي يبدأ بمارلو ويمر بـــ بن جونسون وسالنجر عائدين الى ديكنز.
أنا اتحدث عما هو أحدث وأكثر ايضاحاً لم يكن من قبل موضع اهتمام بهذا الحجم وهذه التفاصيل. فما أهمية تلك التفاصيل «الشخصية» وتلك التي تكشفها اضاءات الكتاب الجدد من شخصيات الأبطال أو شخصياتهم أو شخصيات ناس من اصدقائهم أو معارفهم أو من كانوا صدفة في طريقهم، عبر سفر أو عمل، أو مستشفى، أو في حانة أو سجن؟
هنا الإنسان يتعرى، هنا نرى دخانله ومضمراته ورغباته الدقيقة والكثير مما هو مغطى ومحتجب عن الانظار. وهنا أيضاً علي أن أُنحّي، باحترام، اتجاه بيكيت ومماثلية الذهنيين، كما استثني، باحترام ايضاً، مضامين أو اتجاهات الكتاب المهمومين بالشأن العام، من جورج اورويل إلى كراهام كرين، وتلك الارتباطات مع الخيبة الشخصية مما كان متوقعاً.. حتى اغترابات هؤلاء، مهمة، ولكنها ليست المقصودة في حديث اليوم، قد يكون للتهويميين، أو المسحورين ببقايا الرومانتيكية، اشاراتهم الكاشفة، لكنهم يظلون دون رؤيتي لما أعنيه. فأنا مع الحيوية والفعل اليومي والواقع البشري، وكيف هو حضور هذا الفرد وذاك – وصولاً للحديث عن الإنسانية، عن الناس في الأرض وكيف يعيشون ويسلكون.
إذا، الحديث حصراً عن هذا الزخم الدائم من التفاصيل الشخصية، والطباع وردود الأفعال والأذواق والعواطف وتقلباتها أو انحرافاتها. هذا يعني أنني أقصر الحديث على الإنسان المعاصر، على «الفرد» في عصرنا. أظن الأخيرة أفضل عبارة تشير للقصد. وهنا يكون للظاهرة جملة ايجابيات، جملة مهمات عظيمة ومهمة لكشف حقيقة عصرنا. الرواية العظيمة تكشف، بذكاء وفطنة، اخلاقيات عصرنا واخلاقيات العيش ومتاعب هذا العيش او مباهجه، وسلوك الإنسان وردود افعاله بازاء الحاجة أو الحب أو الاعتداء أو خلال تحقيق الرغبة الممنوعة أو الانتباه الحذِر من المحرمات والممنوعات، وتجاوزها، وحالهُ ساعة يكون خارج السيطرة.
الرواية منجز فني وفكري. لكنها هنا أيضاً إنحاز تاريخي عظيم يمكن للمستقبل قراءة حاضرنا منه. هي ليست مجموعة وثائق ولكنها تصنع جواً حياً وتقدم نماذج، نماذج بشرية فيها الكثير من المنقول من الحياة، الكثير من البشر الحي، وفيها المصنوع، أي المتمنّى، والأمنيات كالادعية تماماً تكشف عن احتياجات الناس ومعوقات السلامة والبهجة في العيش.
في روايات كتلك التي تتحدث عنها، ومن خلال الغضب والفكاهة والعراك والانتحارات والموت صمتاً أو حباً أو انتقاماً، ومن التعاون الإنساني وحالات التعاطف والسرقة والتضحية، نرى إنساننا الأرضي على حقيقته لا كما شاء الرومانسيون أو الاخلاقيون المثاليون. ذلك إنسان مخيلة وهذا إنسان حي يركب الباص، تحاصرة رغبة في التدخين منتظراً محطة الوصول...