اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: الهدهد

مرساة: الهدهد

نشر في: 22 نوفمبر, 2022: 11:54 م

 حيدر المحسن

لا يوجد فرق جوهريّ بين البيوت الفقيرة والفارهة، الكوخ كما القلعة، وأصغر شقة تشبه أكبر فيلا. وهنالك تقسيم آخر للبيوت يؤمن به بورخيس، فهي إما أن تكون مبنيّة في الجحيم، أو في الجنة. البيت هو الكون مسجوناَ في بيته، حيث السيد الرجل يعيش جنباً إلى جنب مع السيدة المرأة، وسط جمال الحياة الداكن، المشعّ، ويصيران في المنزل حتماً مختلفَين.

وجود أحدهما يلزم وجود الآخر، لكن اللقاء بين الرجل والمرأة لا يكتمل ما لم يدخل أحدهما في نبض الآخر، كي يتعرفا على ما هو مقدّس حولهما، وفيهما، ثملين بالنور الذي مبعثه الروح كما الجسد. عند ذاك ترسبُ رائحتهما – لا ِعطرهما – كلٌّ لدى الآخر، وتسكن الجسد كله. كلاهما، الرجل والمرأة، يحسّان بأكثر من إحساس ما إن يجتمعا معاً، وليس هذا كل شيء. هناك إرادة حقيقية للقطيعة مع العالم، وإعادة اكتشاف الواقع بواسطة أدوات الفن: تكثيف الحسّ إلى الدرجة التي تستيقظ فيها جميع الحواس في نفس الوقت، وهذا أساس الإبداع الفني الذي لا يأتي به إله، ولا إنسان، ولا شيطان. الجسد المقدّس، هو الجسد الذي يرفع الشهوة تاجاً على كل قطعة فيه، وهو الذي نطلق عليه "الروح" – والروح هو تعبير أدبيّ عن الجسد – هذا الجزء منا والذي هو مقدّس بذاته، هو الذي يقوم بالفعل الجنسيّ، وينهض كذلك بفعل الإبداع. صار الرجل والمرأة مبدعَين بفضل الحبّ، يتدفّق أحدهما إلى الآخر، ويتلقّف أحدهما الآخر، وما عاد يسترهما شيء. التخفّف من الثياب ضروريّ من أجل أن تسهل علينا إجابة سؤال ما معنى الحياة. بتضامن غامض، يشعر الزوجان أثناء ذلك أنهما وحيدان وحدةً لم يجرّبها أحدٌ في الكون، بينما يرسل الخارج، أي خارج المنزل، رسائلَه دون جدوى. العشرة الطويلة بين الزوجَين تجعلهما يدركان أنهما يتشابهان لا في الطباع وفي الذوق فحسب، إنما في الشكل أيضاً، وهذه الملاحظة تأكدتُ منها في مجال عملي كطبيب يفحص ويرى الوجوه من قرب، حتى السُمرة الشديدة في لون البشرة يتبادلها الزوج مع قرينته ذات البياض المشعّ. يُقال إن الفلاحين الأسبان عندما يبلغوا سنّ الشيخوخة تصير لوجوههم سحنة تشبه لحاء أشجارهم المعمّرة، كما أن للشاعرة الأمريكية لويز فليك – نوبل 2020 – قصيدة تحمل هذا المعنى: "افتح عينيّ فأجدك تتأملني تقول: انظري إليّ، وتقرّب وجهك منّي كأنه مرآة!". صار وجه المرأة نفسه وجه الرجل. إنهما قطبا الوجود، وقد باتا عاريين الآن من الظلال الباهتة التي تبعدهما عن الطبيعة. ثم يبدءان ممارسة الجنس بطقس خاصّ بهما، ويختلفان به عن الغير- طقس خاص، بل أقول إنه شَعِيرَة. بالرغم من فنائه الحتمي، يبقى الجسد فاتناً وبهيجاً لأن فيه سحر الديمومة. وجه المرأة، بأساريره الحلوة الصافية البسّامة الحنون، العينين الحدوبتين تجعله يشبه صفحة نهر. وجهُ الرجل هو الآخر صفحة نهر، وما نقوله عن الوجه يسري على الجسم كله، للمرأة وللرجل. يا للجمال، نهر يعانق نهر! يمنح العاشقان كلّ للآخر أعزّ ما عندهما، النبيذ والعسل: النبيذُ لاذعٌ، والعسلُ هو الأول. يمكن احتمال جميع الخسارات، واحدة بعد الأخرى. يسقط الثلج على الرجل ما إن يفقد امرأته، وتظلّ شذرات الثلج تتساقط، طوال النهار والليل. التقيتُ بالشاعر حسين عبد اللطيف أول مرة في حديقة إتحاد الأدباء في ليلة صيف من إحدى سنوات التسعينات، وقرأتُ له قصيدته (الهدهد) وكنتُ احفظها عن ظهر قلب: «يا أخيَّ العزيز يا أخيّ الذي توّجَتْهُ الطيورُ ملكاً مطلقاً.. أبداً هل لي أراكَ _ مرة واحدةً _ خالعاً تاجكَ المستديم عازباً أرملاً عارياً كيتيم!». أيّ مقاربة يصنعها الشاعر بين الهدهد عندما يخلع تاجه، وبين الرجل الذي فَقدَ امرأته؟ إذا مات الرجل، أو ماتت المرأة، فلن يكون عندها في البيت موتى، ولا أحياء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram