طالب عبد العزيز
تفقّد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بناء، أو ترميم، مسجد دمشق، الجامع الأموي، وقد أمر أن يحمل كلّ رجلٍ حجراً واحداً، ففوجيء بأحد الرجال يحمل حجرين ثقيلين جداً، فاستدعاه وسأله: من أين أنت يا أخا العرب؟ قال الرجل: أنا من العراق يا مولاي. فقال الخليفة مُتحسرَّاً: أهٍ يا أهل العراق تبالغون حتي في الطاعة! قد تبدو الحكاية هذه عابرة عند البعض، ولا تستوقف أحداً، ولعل الشخص هذا تصرف بخصال طبعه، ولم يفصح عن طباع قومه الاخرى، لكنها ترشدنا الى شخصية عراقية غريبة في الوقت ذاته.
تنفتح شهية المثقف العراقي على مائدة الليل عريضةً بالحديث عن الثقافة، ورجالاتها ايام النظام السابق، فنسمع العجيب والغريب، عن الادباء الصحفيين، الذي اشتغلوا بجريدة القادسية ووسائل الاعلام الاخرى، فيوصم الجميع بالبعثيين والصداميين، دونما تفريق في الحديث بين خيارات الموت والحياة، التي لا ثالث بينهما أيامذاك، فمن منا كان سيمتنع عن العمل بإحدى الوسائل تلك، إذا ما خيّرَ بين وجوده جندياً في الخط الامامي من الحرب وصحفياً على كرسي في جريدة القادسية، ضامناً لنفسه وأهله حياته، مستمتعاً بأجواء بغداد وليلها الندي وصباحات نسائها الذاهبات الى الجامعة؟
المبالغة بالطاعة في بناء مسجد هشام بن عبد الملك تشبه الى حدٍّ ما المبالغة باتهام الجنود الصحفيين، الذين عملوا في صحافة النظام. أترانا نأخذُ قضية حمل الحجرين هناك محمل الجدِّ في الولاء والاخلاص للإسلام أوالخليفة؟ ولماذا لا نحملها على محمل آخر، مثل منح الحاكم صورة مزيفةً عن الإخلاص، على ما نعرفه عن الشخصية العراقية من مزاج صعب وتقلّب وإدعاء، أجزم بأنَّ نسبة كبيرة جداً من أصدقائنا الصحفيين والادباء، العراقيين، ومن الوسط والحنوب بخاصة، الذين ذهبوا بأنفسهم أو أختيروا للعمل في صحافة النظام، إنما ذهبوا للحفاظ على رؤوسهم قبل كل رأس للنظام. وكنت على بيّنة من حقيقة انتساب العشرات منهم، من الذين كانوا يظهرون (الولاء المطلق) هل من ولاء مطلق أمام آلة القتل التي كانت تطال الجميع؟
لا أريد أن أسمّي أحداً، من الذين وقفوا الى جانبي حين اتهمتُ سنة 1986 بتنظيم شيوعي داخل الوحدة العسكرية، أيام كنتُ جندياً في الحرب، وقد شحّتْ وسائل دفع الاتهام ذاك عندي، وبتُّ قاب قوسين أو أدنى من تعليق رقبتي، لكنني وبعد الافراج عنّي، وفي فترة تمتعي بالاجازة الدورية نصحني البعض من أصدقائي الصحفيين والادباء، العاملين في جريدة القادسية بالكتابة في أيِّ موضوع كان، خارج الحرب والمديح، وسينشرون ما كتبتُ، لأنَّ ذلك سيمنح ضبّاط الوحدة العسكرية صورة مغايرة عنّي، وربما جعلتني محترما عندهم، فسيجدون شخصية أخرى، مثقفة، تعنى بشأن الشعر والكتابة، وصورة كهذه ستسهم بدفع الملاحقة والتعقب، الذي طالني سنوات الحرب كلها. عملتُ بنصيحتهم فكتبت عن الوطن والنخل والارض والبطولة بمفهومها العام وغير ذلك فكانت كما خططوا لي.
الى الآن، أحتفظُ بمسودة كتابي(تاريخ الاسى) مخطوطة بقلم صديقي الشاعر والصحفي منذر عبد الحر، الذي غامر بإضافة قصيدتي(حرب أخي) ذات الموقف المضمر من الحرب،وحرص على اضافتها لمخطوط الكتاب، مع الصديقين خالد مطلق ووارد بدر السالم، اللذين زوّرا توقيع الشاعر رعد بندر(رئيس إتحاد الأدباء) وختم الاتحاد، في عملية يطول شرحها هنا. وحين أردتُ استحصال جواز السفر سنة 1993 استحال عليَّ ذلك في البصرة، لكنني، استحصلته بيسر من بغداد بموجب كتاب إتحاد الادباء، الذي يُعلم الوزير(حامد يوسف حمادي) بوجوب سفري الى الاردن، تحت كذبة (متابعة شؤون الاتحاد هناك) فتم لي ذلك، وحين استعصى الحصول على بطاقة السكن، وهي من موجبات استحصال الجواز، غامر الروائي والكاتب والصحفي وارد بدر السالم فزوّر لي بطاقة سكن منزله، وجعلها باسمي، فأتممت بها الموجبات تلك، وارد الذي كان يدخل على آمر وحدتي العسكرية، ويعظّم شأني عنده، مفنداً انتمائي، والتهم التي ضدي، فيخرج من عنده حاملاً ورقة الاجازة الاستثنائية لي. كل نظرة تاريخية خارج الحقيقة المضمرة هذه ستبدو ظالمة لثقافتنا العراقية، ولجيل من المثقفين العراقيين، الذين أرادوا الحياة لأنفسهم، ولم يجدوا بداً من ذلك، وحين تيقنوا منها فاضوا بها على أصدقائهم.