اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > فريدريك نيتشه.. غريزة الحياة والإنسان الأسمى

فريدريك نيتشه.. غريزة الحياة والإنسان الأسمى

نشر في: 27 نوفمبر, 2022: 11:46 م

أوس حسن

ما يميز نيتشه هو صعوبة وضعه في أي خانة من خانات التأويل، بدون أن تسقطنا لغته المراوغة في شباكها وفخاخها،تلك اللغة التي تجمع النقائض في صيرورة متكاملة،

والتي تجعلنا ننزلق إلى الهاوية ونحن مطمئنين. فالتخلخل والتناقض في شذرات نيتشه وعالمه الفلسفي جعلاه عرضة لأنساق تأويلية جاءت من بعده كالوجودية والعدمية ومناهج التفكيك، لكن لا شيء يعلو عند نيتشه على الحياة وطاقتها المتفجرة، ولاشيء كالفرد الذي يهدم القيم البالية والموروثات التي تنخر العالم المريض، ليقيم على أنقاضها عالما ًتحكمه قيم الإنسان المتفوق، لكن الإنسان هنا ليس مركزاً، بل حركة عابرة في براءة الصيرورة يخلق المعاني ويرأب الصدع الذي يصيب الحضارة الإنسانية في كل زمن من الأزمنة.

يقول البير كامو في الإنسان المتمرد:»إن العدمية مع نيتشه أصبحت نبوئية وواعية لأول مرة، إن نيتشه أقر بالعدمية وفحصها كواقعة سريرية، وادعى أنه أول عدمي في أوروبا».

رأى نيتشه في ذاته ولدى الآخرين العجز عن الإيمان واختفاء القاعدة الأولية لكل إيمان في الحياة.

جعل نيتشه من فقدان الإيمان طريقة تسير بالعدمية نحو نتائجها القصوى، فقد مارس الإنكار الممنهج عن طريق الهدم المستمر لكل الأشياء، ولكل المعبودات التي تخفي موت الإله،فالإقامة معبد جديد لا بد من تهديم معبد قديم.

يعتقد نيتشه بأن الأنسان يجب أن يكون حرا ًفي عالم لا تحكمه الغايات ولا القيم، وهذه الحرية تجد نفسها في الوقوف على حافة الخطر، وفي الاعتراف ببراءة الصيرورة وفي الاستسلام لهذا العالم.

وهذا يؤدي إلى مبدأ الزهد العدمي المنطلق من الاعتراف بالقدر وتمجيده، وهنا تمتزج فرحة الصيرورة بفرحة الفناء.

لقد سعى نيتشه كما يذكر البيركامو إلى إثبات وجود القانون في الصيرورة، لكن ما من حكم يفسر العالم. لذلك لا يكتنهه إلا الفن، فالفن وحده يعلمنا كيف نكرر العالم، مثلما يتكرر في حركة العود الأبدي، وهكذا تدخل ألوهية الإنسان إلى هذا العالم.

أن يقول المرء نعم للعالم، أن يكرر ذلك، معناه أن يعيد خلق العالم، وأن يعيد خلق ذاته، وهو بذلك يصبح الخالق والفنان الأكبر.

نيتشه والأخلاق

يعتبر كتاب «جينالوجيا الأخلاق» (1887) واحداً من أهم الكتب التي قام بها نيتشه بإعادة التقييم لكل القيم والأفكار التي مرت في العصور البشرية، وهدم كل فضيلة إنسانية متعالية، وهو لم يقصد المثالية الكانطية والشوبنهاورية فقط، بل التقاليد المسيحية الأفلاطونية؛ العمود الفقري للثقافة الغربية منذ 2000 سنة، يرى نيتشه أن الأخلاق السائدة في العصر الحديث هي منظومة الأعراف والتقاليد، التي وافق عليها المجتمع وأصبحت بمثابة قوانين تحكم الفرد، ونزوعه السلوكي نحو الخير والشر بوصفهما مفهومين متناقضين، ومن هنا يعمد فيلسوف المطرقة وبحسه السايكولوجي إلى الغوص في الأعماق وتفكيكها، قاصداً البحث عن الأصل الذي نشأت منه الأخلاق، محتذياً حذو عالم الأحياء تشارلز داروين في البحث عن أصل الإنسان والكائن الحي الذي انبثق من خلية الأميبيا الأحادية.

يهدم نيتشه كل ما تعارف عليه الفكر البشري من قوانين وأخلاق وأعراف، ويرى في فضائل مثل العدالة والتسامح والشفقة والمساواة، عبارة عن رذائل أنتجتها الأخلاق المسيحية، ومن قبلها الأخلاق الأفلاطونية، حيث يواصل حفره في أصل المفاهيم ومنشأها ليتوصل إلى أن الميتافيزيقيا هي أصل كل شر، ولكنه ليس الشر المتعارف عليه، وإنما الشر الذي يحتقر الجسد والغرائز وينأى بالإنسان عن طبيعته وسجيته التي خلق عليها. يقسم نيتشه الأخلاق إلى قسمين: وهي أخلاق السادة التي تتصف بالشجاعة والجمال والقسوة والصدق، وأخلاق العبيد التي تتصف بالمكر والحيلة والغدر، والتي تخفيها تحت عدة مسميات وأقنعة أخلاقية للانتقام من السادة تحت هذه المسميات، لذا يعتبر نيتشه أن العصور التي تسودها أخلاق العبيد والمثل الدينية، هي عصور انحطاط للبشرية، فالسادة هم من يصنعون القيم الأصيلة والأخلاق الحقيقية، التي هي في الأصل وليدة النزعة السوية في علاقة الإنسان مع الطبيعة. رفض نيتشه الاشتراكية والفوضوية واعتبرها أحد أشكال المسيحية الوضعية المعلمنة، لقد مقت روسو والثوريين الفرنسيين، ومقت أفكارهم السامة عن المساواة، وقد أعلن أن الأخلاقيات اليهودية والمسيحية هي بشكل جوهري أخلاقيات العبد، ويصف العبيد بأنهم مسلوبو الإرادة، غير قادرين على التصرف أو مواجهة النبلاء، لذا يستخدمون الانتقام المتخيل وذلك بالعقاب في الجحيم. إن الإنسان المتفوق الذي يبشر به نيتشه، هو نتيجة شبه حتمية للحياة في تطورها وتشكلها الجديد من الأذى وسيطرة كل ما هو خارجي وغير فعال، الإنسان الأسمى هو الذي تتشكل جيناته من أخلاق المحاربين القدامى وقسوتهم، المتجاوز لثنائية الألم واللذة، والخير والشر، إنه روح الطبيعة، وابنها الضال، ذلك الذي ولد ليبدع قيما جديدة وأخلاقا جديدة تنقذ البشرية من الانحطاط والعبودية.

وهم الثقافة...وغريزة الحياة

إن الجزء الحيواني عند الإنسان هو جزء جوهري وأصيل في تكوينه ولا يمكن الاستغناء عنه، لأنه يربط الإنسان بالطبيعة وبحقيقته العارية الأولى، بلا تزويق ولا تجميل. لقد حاولت الأديان والحضارات وجميع المعارف كبت هذا الجزء الحيواني عند الإنسان بل وقتله أيضا ً، الأمر الذي جعل الإنسان ينحرف عن حقيقته ويستبدلها بحقائق وهمية جعلته ينتج أخلاقا ًمريضة وعاجزة عن الارتقاء بالحياة، وهذه الأخلاق وإن كانت تحت مسميات لامعة وبراقة، إلا أنها تخفي في أعماقها أرذل الصفات وأكثرها انحطاطاً، فالإنسان الذي يتسم بالمكر والخداع والكذب والانتقام وغيرها من الصفات هو إنسان تجري إرادته الزائفة عكس مجرى الطبيعة، وهذه الصفات لا تحركها الرغبات بقدر ما يحركها الصراع الداخلي بين الجزء المدني المتحضر عند الإنسان، وبين جزئه الحيواني الذي يحاول أن يطفو إلى السطح، فيدفنه الإنسان في الأعماق السحيقة أو يحاول قتله بقرار لا واعٍ، وهذه الأزدواجية هي أساس كل صراع وكل انحطاط بشري.

لكن متى يكون الإنسان على حقيقته الأصيلة، ومتى يصغي بصفاء تام لصوته الأول الضارب في القدم؟

يقول نيتشه:» نحن لا نكون صادقين تماما ًإلا في أحلامنا».

يعتقد نيتشه أن الإنسان الذي يحلم يكون أقرب إلى الإنسان البدائي الأول، وهذا العقل الغريزي الذي يفترضه نيتشه هو أكثر انسجاما ًوتوازنا ًمع الطبيعة لأنه يعرف كيف يرتقي بغريزة الحياة التي يجب أن تسود كل الغرائز، وعلى هذا الأساس فإن الجسد الذي يستطيع أن يكيف نفسه لحفظ البقاء يكون سالما ًومتصالحا ًمع الحياة، والجسم هو الذي يستعمل العقل للوصول إلى أهداف غريزية، وقمة هذه الأهداف الأساسية هي الحياة بكامل سموها.

والجسم إذا كان سليما ًيعمل العقل في اتجاه سليم ويكون مطابقا ًلأهداف الحياة وقوانينها، أما إذا كان الجسم سقيما ًفإن العقل يعمل باتجاه معاكس للحياة.

إن كل ما أنتجه العقل البشري من ثقافة ومعرفة وعلوم يجب أن يخضع للحياة وقانونها في الاستمرار والبقاء، فما تعيشه البشرية منذ ألفي عام عبارة عن قيم فاسدة منحطة تنكر الحياة لأنها نتاج عقل عاجز لم يستطع أن يخلق أي قيمة حقيقية على هذه الأرض، فلجأ إلى قيم زائفة تمجد الحياة في عالم وهمي وخيالي، وهذا الوهم لم يكن سوى موروثات العقل المريض الذي خلقه عجز المستضعفين وهم ينحدرون إلى المراتب السفلى في الحياة،وتحدوهم الرغبة في الانتقام من فرسان الحياة وصانعي مجدها الخلّاق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram