ستار كاووش
إكتشاف الجمال لا تصنعه الغرف المغلقة، هكذا قلتُ لنفسي وأنا أخرج نحو القطار الذاهب الى مدينة دريسدن، التي قضيتُ فيها جولات جميلة وسط المعالم التاريخية والمتاحف والعمارة المذهلة. وقد كنتُ أعد اللحظات للوقوف أمام أحد الكنوز الفريدة في تاريخ الابداع الإنساني،
وأعني جدارية (موكب الأمراء) وجمالها الذي يكاد يفوق طاقة البشر، حيث فهمتُ وأنا أقف أمامها متأملاً، لماذا وكيف تعكس الأعمال الفنية العظيمة، نوعاً من الجلالة والقوة والتأثير. فهذا العمل الذي يمتد لمسافة أكثر من مائة متر (١٠٢متر) ويرتفع عشرة أمتار، ورُسِمَ على ثلاثة وعشرين ألف بلاطة من الخزف، يُعتبر أكبر لوحة جدارية رُسِمَتْ على الخزف في العالم! لكم أن تتصوروا مقدار الهيبة والجمال والسطوة التي يلقيها هذا العمل على كل من يقف في حضرته متأملاً.
لا يمكنك أن تمر مروراً عابراً في هذه المدينة، دون التوقف لبضع ساعات أمام هذا الإعجاز الفني، بل أنت بحاجة الى يوم كامل للكشف عن خبايا وجمال جزء صغير من التفاصيل ومتابعة الخطوط والتكوينات والشخوص وباقي مفردات هذا الصرح الذي أعطى للمدينة جمالاً وأهمية فنية وتاريخية. ينتصب هذا العمل العملاق على جدار أحد القصور الملكية في شارع أوغسطس، وقد أنجز بواسطة الفنان العبقري فيلهلم فارتر الذي وضع فيه عصارة إبداعه ونبوغه الفني، حيث يظهر في هذه اللوحة أربعة وتسعين شخصية، بينهم خمسة وأربعون يمتطون الجياد، وتسعة وأربعون من المشاة، بينهم أيضاً تسعة وخمسين عالمًا وفنانًا وحرفيًا وجنودًا وأطفالًا ومزارعين. لكن الشخصيات الرئيسية لهذا العمل والتي منحته أهمية تاريخية، هي ملوك ودوقات ساكسونيا الذين بلغ عددهم خمسة وثلاثين ملكاً ودوقاً وحاكماً من الذي حكموا ساكسونيا من سنة ١١٢٧ الى سنة ١٨٧٣ وهم يسيرون في هذا الموكب، في عرض تاريخي لا يوجد له مثيل في كل الأعمال الفنية.
تأملتُ تفاصيل العمل، فرأيتُ كيف تتواصل الكثير من الشخصيات فيما بينها، لا عن طريق الحوارات، بل بواسطة الإيماءات، فيما تنظر ستة عشر شخصية الى خارج اللوحة، وهم يركزون أبصارهم بالضبط في عين المشاهد. وبالإضافة لخيول الفرسان، هناك كلبان ومجموعة من الطيور وبعض الفراشات، كذلك أحد عشر علماً. مضيتُ بمراقبة العمل وكأني أسير مع شخصياته، فأحصيتُ تسعة أشخاص لا يعتمرون غطاء للرأس كذلك هناك خمسين شخصاً ملتحياً، وبالتأكيد لا يمكنني أن أتجاهل الأسلحة مختلفة الأنواع والطرز، والتي يحملها الأمراء في هذا الحشد الملحمي المتدفق كالنهر، فقد إلتمعتْ وسط هذه المسيرة، السيوف والحراب والرماح والخناجر والسكاكين وحتى المسدسات والبنادق وأشكال أخرى مختلفة من الأسلحة التي أُستعملتْ لقرون عديدة، والتي وثقها هذا العمل العظيم، وهذا يمنحنا أيضاً فرصة لمعرفة تطور أنواع الأسلحة.
أنجر الفنان فيلهلم فالتر الدراسات الأولية للعمل سنة ١٨٦٥، وقام بعدها ببضع سنوات، برسم العمل كاملاً على الورق وبطول مائة متر، وهذا الرسم الورقي مازال محفوظاً في أربع رولات ضمن تراث مدينة دريسدن، ثم قام بتنفيذ العمل على البلاط بين سنتي ١٨٧٢-١٨٧٦ وحاول رسم كل التفاصيل بدقة وعناية فائقة، بعد أن قام بالكثير من الدراسات الأولية، كي يكون الرسم ملائماً لكل التفاصيل التاريخية الحقيقية، لكن لسوء الحظ بانت بعض تأثيرات المناخ على هذا العمل الأول، ولم يكن مقاوماً لتأثير البيئة والمناخ، حيث ظهرت عليه وقتها أضراراً كبيرة. لهذا إنبرى الفنان لإعادة العمل من جديد كما نراه اليوم في صورته الحالية، حيث تم تجهيز بلاطاً مختلفاً من السيراميك صُنع خصيصاً في مصنع بورسلين ميسن، والذي تمت معالجته بدرجة حرارة ١٣٨٠ درجة مؤية، وقد تم إنجاز العمل النهائي سنة ١٩٠٧، ويمكننا أن نرى الرسام العظيم وقد رسم نفسة في مؤخرة المسيرة، حيث يظهر بقبعة سوداء كبيرة وهو يتابع سير الموكب.
عند نهاية الحرب العالمية الثانية، تعرضت مدينة دريسدن لغارات جوية عنيفة، تحطمت على أثرها الكثير من المباني والبيوت، وقد أصابَ قصف القنابل هذه الجدارية الفريدة أيضاً، ورغم إنها بدت في باديء الأمر وكأن أضرارها لم تكن كبيرة مثل المناطق الأخرى للمدينة، لكن بعض أجزائها في الحقيقة قد لحقتها الأضرار، وقد تم سنة ١٩٧٨ تنظيفها ومعالجة بعض ما لحقها، كذلك قام بعض المختصين بترميم الأعمال الفنية، بتغيير مائتي بلاطة تضررت بشكل كامل، ثم إكتشفوا أربعمائة وأربعين بلاطة كانت أقل تضرراً، وتم إستبدالها أيضاً، لتعود هذه التحفة من جديد كما هي في شكلها الأصلي. وهكذا نجا هذا العمل من القصف الوحشي، وما زال الناس تتوافد من كل العالم لرؤية هذه المعجزة الفنية التي تقف منتصبة وكإنها تقول، إن الجمال هو الذي يبقى وينتصر في نهاية المطاف.