عدنان الفضليوأنت تذهب الى التاريخ بغض النظر عن مسافته ، فحتماً انك قاصد إليه لفضح بعض زواياه المختبئة تحت ظلام وأتربة ، وحين تكون متسلحاً بأدوات إبداعية فلا غرابة وقت تحقق المراد دون الاتكاء على غير ذاتك واستنباطات روحك ، ولعل المضي في هكذا طريق تغشاه الوحشة يحتاج لمصباح فكري يبدد لك تلك الوحشة ويدلك على المطبات غير المتوقعة التي قد تودي بك الى سقوط موجع،
هذا كله فعله الروائي شاكر المياح وهو يخوض تجربته الروائية الأولى ، بعد انتفاضة على صمت طال عقوداً ليست بالقليلة.. فالرجل ومن خلال وليده الأول نفض الغبار عن بعض الوجع السومري حين كتب روايته التي جاءت تحت عنوان (الغبش) والصادرة مؤخراً عن دار الينابيع في دمشق ، حيث مارس المياح مهنة الحفر والتنقيب في جسد الذاكرة ونبش في عمق شخصياته باحثاً عن موجات الظلم والتعسف التي طالت القرويين العراقيين أبان فترة النظام الإقطاعي والتي كان الكاتب شاهداً وراوياً لها ، حتى انه صار ومن خلال تلك الرواية لسان حالهم الصادق.فمن الجوانب المخفية اخرج لنا المياح محوراً متعدد النوافذ جعلنا من خلالها نطل على الكثير من فضائح أنظمة الظلم والاستبداد والقسوة ، ولنشعر نحن الذين لم نعش تلك التفاصيل إننا في قلب الحدث ، ولعمري ان ما جاء به المياح في روايته التي أتت بأكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط يعدّ محاولة خطيرة نجحت في الكثير من جوانبها ، فهو وحين قرر ان تكون لغة روايته مزيجاً من اللغة الفصحى واللهجة الجنوبية الدارجة ، كان يدرك حتماً ان البعض سيتربص به لالتقاط الأخطاء التي سيقع فيها من الناحية البنائية ، في حين انه لم يسمح لنفسه وللآخرين بالدخول في حومة الالتقاط حين رتب الشخوص والحوارات وفق تسلسل يحسده عليه الآخرون ، مع إقراري ببعض الهفوات في الحوار ، لكنها هفوات صغيرة جداً ، حتى تكاد غير قابلة لطرحها ، واقصد بذلك ومن وجهة نظري الشخصية ذهابه في بعض الأحيان الى فتح حوارات بين أشخاص بلغة فصحى ، في حين انه سبق وان ترك هذه الشخصيات تتحدث باللهجة الدارجة ، ولعل لدى المياح جواباً لهكذا تساؤل؟.في ابرز ملامح شخصياته يذهب المياح الى حيث بؤرة الظلم آنذاك المتمثلة ببعض شيوخ العشائر والإقطاعيين ، فهو يتركنا نشعر بوجع (سدخان) الذي يصبح فيما بعد (عدنان) وقت يعيش مرارة استهزاء شيخ العشيرة به وتحويله الى مهرج رغماً عنه ، فتنطلق من تلك الحادثة تفاصيل الانتفاضة الإنسانية بداخله حين يقرر وبلا سابق تفكير الهجرة بعيداً عن قريته خلاصاً من ظلم شيخ العشيرة لتبدأ رحلة النضال من اجل العيش الكريم والتي تنتهي بنجاح مبهر حين يتحول هذا الفلاح الفقير شخصية مرموقة في العاصمة بغداد ويتزوج من طبيبة كان يعمل لديها كـ (فرّاش) . الشخصية الاخرى التي عالج المياح من خلالها ظلماً آخر تتمثل بـ (حسن) هذا الرجل المرهف الحس الذي يعشق احدى بنات قريته ، لكنه لا يستطيع الزواج منها نتيجة العادات والتقاليد المتخلفة فيصطدم بـ (النهوة) هذا التقليد المقيت الذي طالما كسر قلوب الشباب والعذارى ، ويفعل حسن مثل ما فعله قريبه سدخان ويغادر القرية . المعالجة الثالثة التي تبناها المياح في روايته هي الوشاية التي طالما رحن ضحيتها العشرات من نساء القرى ، وهاهو يستذكر لنا حادثة مقتل إحدى الفتيات في القرية على يد أخيها الذي يصدق وشاية تقول انها عبثت بشرفه ، في وقت ان الأمر لا يتعدى كونه مكيدة صاغتها إحدى النساء.وفي معالجة رائعة يأخذنا المياح الى عالم الجشع والطمع ، حين ينقلنا الى أجواء الحرب الشعواء بين شيوخ العشيرة الذين يتقاتلون من اجل المكاسب متناسين انهم أخوة خرجوا من صلب واضح ، ويدير المياح هذا المحور بطريقة إبداعية جميلة عبر تصوير درامي خاص بثه عبر منظومة سردية متمكنة ، مؤكدا من خلالها مقدرته العالية في رسم الخطوط السردية المتصلة مع عين وفكر المتلقي .ومن نافذة سردية أخرى يعالج المياح قضية الثأر عبر انتفاضة أولاد مريشد الصبح على شيوخ العشائر والمتنفذين بعد مقتل والدهم بتدبير من الشيخ حسون ، ويصور لنا المياح كيف ان نزعة الانتقام تأتي على الأخضر واليابس ، وتحرق المجتمعات وتحيلها الى خراب .ومن زاوية أخرى يصوّر لنا المياح المرأة الجنوبية ، وهي تساند زوجها في أحلك المواقف ، وتصير له عوناً وقت يواجه الظلم ، وقد برز ذلك في أكثر من معالجة وبداخل أكثر من شخصية ، لعل أبرزها شخصية حسنة (ام طلال) التي تساند زوجها سدخان وتتحمل معه كل أنواع الضيم والجوع والفقر والظلم ، ومع ذلك تقبل في نهاية الأمر بمسالة زواجه من اخرى في واحدة من أرقى صور الإيثار. لم يغفل المياح ايضاً قضية الشجاعة والطيبة والإنسانية التي يحملها الرجل الجنوبي ، فهاهو يسلمنا مفاتيح ذلك عبر شخصيتين رسم فيهما الحلم والشجاعة والثورة دفاعا عن حقوق المظلومين ويجسد ذلك عبر (عباس الدلي) و(مريشد الصبح) اللذان لم يتوانيا عن مواجهة الإقطاعيين والشيوخ وقت أحسا بأنهما يذيقان الفقراء مرارات الظلم. وفي تصوير دقيق للفساد الحكومي آنذاك يتعرض المياح الى قضية الرشوة ومدى تأثير شيوخ العشائر على القرار السياسي والقانوني ، حين يتركنا قبالة مسؤولين مرتشين يتلاعب بقراراتهم أصحاب المال ، وعمد المياح الى توضيح ذلك من خلال ميل المسؤولين لصالح شخص على ح
الغبش.. توغل سردي فـي عمق الآه الجنوبية!
نشر في: 23 يوليو, 2010: 07:02 م