ستار كاووش
المدن تشبه النساء، وهي تفتح لك قلبها حين تَراكَ ودوداً ومرهفاً ومرحاً. فَكَّرتُ بذلك وأنا أتأمل وجه مدينة دريسدن التي بَدَتْ كإنها امرأة حسناء طلعتْ تواً من إحدى اللوحات الكلاسيكية. مع ذلك، فالأمر ليس دائماً بهذه البساطة.
فلكي أمسك بالجمال الذي يتدفق مثل الينابيع في هذه المدينة، فَعَليَّ التحلي بالكثير من الصبر والقدرة على رؤية ما خلفَ الواجهات، عليَّ أن أتعدى نظرتي الأولى العابرة وأمعن في التفاصيل والزوايا التي لا يرتادها السواح العاديين، فهناك ترقد الأشياء غير المتوقعة، هناك تكمن أسرار المدينة، وفي تلك الإنعطافات غير المُنتظرة سأجد ضالتي، حيث يضوع عطر التاريخ الذي أنجزه ناس يبدون مثلنا، لكنهم يتفوقون علينا بمحبتهم لمدنهم وإنغماسهم في بناء حكاياتها بالحجارة والتراب واللون والأفكار التي تُعَلَّي سطوح المباني وهامات البيوت وتجعل الساحات مسرحاً للعمارة والتماثيل. قَلَّبتُ هذه الأفكار في ذهني وأنا أقطع شارع ترومبتر، قبلَ أن يداهني مطر خفيف، فلذتُ بجانب بناية مرتفعة، لألمح بعد لحظات على الجهة المقابلة، متاجر بريمارك، فعبرت الشارع بسرعة ودخلتُ هناك، ولم تمض عشر دقائق، حتى خرجتُ مع جاكيت مطري بقلنسوة، اشتريته ليقيني المطر، وأكملتُ طريقي في شوارع المدينة، لأتوقف قليلاً عند تمثال مارتن لوثر الذي يقف منتصباً وقد بلله المطر. بدأ الجو بالتحسن فوضعت الجاكيت المطري في حقيبتي الصغيرة، ثم إنعطفتُ نحو كنيسة السيدة، بعمارتها المذهلة، والتي كانت قد تحطمت وإنهارتْ تماماً عند نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن سكان المدينة أعادوا بناءها من جديد وبذات طراز الباروك الذي كانت عليه. وقفتُ أمام هذا الصرح، أتأمل إرادة الإنسان في صنع المعجزات وإعادة الروح الى المدن التي يحبها إن أصابها مكروه. رفعتُ بصري نحو الواجهة التي بدت كإنها قد خرجت تواً من كتاب للأساطير القديمة، فيما ربضت حجارة ضخمة غير منتظمة الشكل على مبعدة من الكنيسة، هي في الحقيقة جزء من البناء الأصلي للكنيسة التي حطمتها قنابل الحرب، وقد وضعوه في الشارع المحاذي للكنيسة المُعاد بنائها، ليكون شاهداً على الحرب وأثرها الذي تركته على الحجر وفي قلوب الناس. البناية تقف معلنة إنتصار الجمال، فيما جلس في الجهة المقابلة، حوذي صامتاً في عربته ذات السقف الأصفر بإنتظار بعض السائحين، جلس بهدوء وسكينة، كما هما حِصانَي العربة الَّذان يقفان في وجوم بإنتظار وجبتهما اليومية من الطعام. قطعت بعض الشوارع الصغيرة المليئة بمتاجر الشوكولاته والنبيذ، لأصل الى الحديقة المطلة على قصر دريسدن، الذي يسمى (زفينغر)، وهو في الحقيقة مجمع لعدد من القصور، فإخترتُ أريكة خشبية قديمة، وجلستُ أتأمل المكان الذي بدا كإنه مشهد من فيلم تاريخي. وفجأة لاحتْ لي رؤوس بعض التماثيل التي طلَّت بهاماتها من خلفَ سور حجري أعلى القصر. بحثتُ عن سلم جانبي وصعدتُ الى الأعلى وكإني أتقمص شخصية روبن هود، وهناك كانت المفاجئة التي لم أتوقعها أبداً، فقد وجدتُ نفسي وسط ممرات تبدو خرافية وواسعة، مليئة بمئات التماثيل، غابة من التماثيل الحجرية التي تعود هي والقصر لمئات السنين، ولا أظن إن هناك مكاناً في العالم إكتض بالتماثيل كما هو هذا المكان. ياله من معرض مفتوح، بل هو أكبر معرض للنحت في الهواء الطلق رأيته في حياتي. كم من الوقت إنشغل النحاتون لإنجاز كل هذا؟ من سدد هذه التكاليف التي تتجاوز بناء مدينة كاملة؟ من أين لهؤلاء النحاتين الطاقة لإنجاز كل هذه الأعمال؟ ياللمواهب ويا لكرم رعاة الفن ومحبي الجمال وصانعي المدن العظيمة. أفكر بهؤلاء الذين مضوا جميعاً منذ زمن بعيد، لكن إنجازهم بقي واقفاً ليحكي لنا قصة مدينة أحبها أهلها وحكامها وفنانيها. وها أنا أعيش اللحظة، وأَمضي بصدقٍ وقلب مفتوح في هذه المدينة التي لا تكذب أبداً، وأختلطُ مع ملامحها مطمئناً لأنها جميلة وأساسها سليم وسَوِيّ. إنتشرت هذه الأعجوبة من التماثيل على مساحة تشبه القلعة، حيث شغلت مئات الأمتار على سطح القصر وجوانبه وإمتدت حتى ساحته التحتية الواسعة. شُيِّدَ هذا القصر (القصور) في عصر الملك أوغسطس، بين سنتي ١٧١٠ و١٧٢٨ وهو مثال مدهش لعمارة عصر الباروك في فترته المتأخرة. وقد كانت القلعة التي تحيط بالقصر والمليئة الآن بالتماثيل مكاناً للإستعراضات والإحتفالات التي تعكس روح المدينة في تلك الأيام. مضيتُ بين هذه الابداعات ومرَّرتُ يدي بنشوة طفل على ملامح التماثيل، ثم توقفتُ على حافة إحدى الشرفات بجانب تمثال صغير لملاك، ونظرت نحو الأسفل، فلفتَ إنتباهي شاب وشابة من أهالي المدينة يرتدون ثياب العرس، قد إختارا جانباً من باحة القصر القديم مكاناً لزفافهما، فتوقفتُ أتأمل العروسان وجمالهما الحاضر وهو ينسجم مع جمال الماضي، وشعرتُ بنضارة عطر الزفاف وهو يتكيء على رائحة التاريخ. هكذا تتواصل الأجيال في صنع حياة هذه المدينة التي يحبها كل من يتجول بين شوارعها وساحاتها وربوعها. التاريخ يكون كاذباً إن لم تدعمه الشواهد والأدلة، وها أنا بين ثنايا مدينة كلها شواهد وبراهين على عظمة البشر وقوة الإنجاز وحب تراب الوطن.