TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مرويات (علي أبو عراق) الشفاهية

قناطر: مرويات (علي أبو عراق) الشفاهية

نشر في: 10 ديسمبر, 2022: 10:56 م

طالب عبد العزيز

تختزن الذاكرةُ العراقية بآلاف القصص والحكايات الشعبية، التي تواترت على ألسنة الرواة، ولهجت بها الشفاه في الحقول والبساتين ومسطحات المياه وبين الاخصاص، قصص لم يخل منها مفصل من مفاصل الحياة، فقصص الحب والبطولة والمروءة الى جوار قصص الكراهية والقتل والانتقاص من (الغريم) كانت مادة المُضيف في القرى،

يحظى الحكّاؤون بها مرتبة عليّةً عند الشيوخ، ويتداول الخطباءُ بعضها على المنابر، ويستعين بها أصحابُ الأمَثال، مثلما يستل منها الشعراء والروائيون والفنانون ما طاب لهم، ثم أنها دخلت الدرس الأكاديمي في أكثر من بحث.. لكنها ظلت ركناً صامتاً في معمار الثقافة العراقية، ولم تحظ بعناية المؤسسات الحكومية والشعبية إلا بالقدر القليل.

لا أعرف ما إذا كانت المقدمة(الطلليلة) هذه تصلح مدخلاً للحديث عن تجربة الشاعر والصحفي وكاتب السير الشعبية علي ابو عراق، الذي بذل جهداً كبيراً في هذا اللون من الكتابة، وأضاف ثراءًا وأثراً مع من تصدّى وأضاف، مستعيناً بذاكرته الحادة، وحافظته العامرة، مرةً أو قاصداً أصدقاء له، ممن عرفوا بعنايتهم في هذا الفضاء البكر، مرة أخرى، على طول وعرض المساحة الواسعة في الجنوب العراقي، فاحصاً ومقلباً، ثم متاكداً من صحة الحكاية والقصة، وفائضاً بالكثير عليها من حساسيته الشعرية، التي جعلت من متن الحكاية المحدود (ربما) متسعِاً، وغيرَ مقيَّدٍ بصياغته الشعبية الأولى، ليتجاوز به حساسية المتلقي، الذي يبحث في المتن الأول عن ما هو أبعد من ذلك.

أسس علي ابو عراق لنوع فريد من الكتابة الصحفية حين عمل محرراً لصفحة أدب شعبي بجريدة (المنارة) التي صدرت في البصرة للفترة من(2003- 2015) تمثل في إقران بعض القصائد الشعبية المعروفة بأصل حكايتها، أو المناسبة التي قيلت فيها، وبذلك اهتدينا الى متون سردية غاية في الجمال والطرافة، وتوصلنا معه الى خلاصات حكائية، ما كنا لنقع عليها لولا الجهد هذا. فتتبع القرّاء مادته، وتناغموا معها، في حوار نوعي، ألَّفَ بين الكاتب ومادته وقارئه. وإذا كنتُ أذكر له هذه، فلن أغفل استجابة الشعراء في مدن الوسط والجنوب الى أهمية ما كان يحررُه، أولئك الذين رفدوا الجريدة بمواد ثقافية متنوعة، جعلت من الصفحة علامة دالة عليها. هذا، فضلاً عن كونه الشاعر، الذي أصدر بالفصحى عشرة كتب، تناول النقادُ بعضّها بالدرس والمتابعة. فكتب عنه القاص محمد سهيل احمد، والناقد علي حسن الفواز، والشاعر عواد ناصر، والباحث باسم عبد الحميد حمودي وغيرهم. كذلك، فهو السارد الذي خاض تجربة الكتابة الروائية فأصدر رواية (غرابيل) الرواية التي لم يتخل فيها عن مشروعه ذاك عبر إقران المتن السردي بالحكاية الشعبية.

في ورقة التقديم لكتاب علي ابو عراق(شفاهيات من الجنوب) يكتب أ.د سامي علي جبار:" تجتمع في هذا المؤلف جملة خصائص: منها الاهتمام بحكاية هذه المرويات، وصياغتها باسلوب ادبي شاعري، وتوظيف الطاقة السردية في جعل (ثيمة) الحكايات مادة سردية باسلوب يوازي الحكاية، ويفوقها في اضفاء المخيلة السردي في نقل الحكاية من المحلية الى البعد الانساني، كما فعل كبار الساردين أمثل تشيخوف وغيره" وهذا ما يلحظه القارئ في الكتب التي أصدرها مثل (مقامات الماء، مقامات النخل، مرويات جرت على الشفاه، شفاهيات من الجنوب، مرويات شفاهية من الاهوار، البصرة موروث لا يدركه الزوال) أو في ما أنجزه من دراسات عن الشعر الشعبي مثل (حجام البريس.. دراسة عن قصيدة مظفر النواب وقصائد أخرى).

تقودنا صفحات كتب علي ابو عراق الى حياة كاملة، كُتبتْ بحسٍّ جماليّ، وبتناول لا يبتعد عن الايدولوجيا أحياناً، وتحافظ على طبيعة العلاقة داخل المجتمع في وسط وجنوب العراق، فهو يطلعنا على حياة المرأة في العالم المائي، الممتد بين حدود البصرة مع مدينتي العمارة والناصرية، حيث تسود الذكورة، و ما تتعرض له المرأة، ويهدد حياتها في أيام النزاعات والاقتتال بين القبائل، غير غافل عن الجانب المشرق في وجودها هناك، بوصفها معين الجمال والانوثة، والحاضنة الكبرى للوجود الانساني. يشرق ويغرب بنا، متنقلاً بين حكايات لا حصر لها، بعناوين مفارقة، تجمع بين الفصحى والعامية: مثل (تجليات شنين الاخرس، وابن طوكة، او تطلك تريد تجيب حبلى الليالي، او كتلك يمه صبري لا تسجليش، او كركي كتل زعفران..، او يا بيك ازركنه بصمونه، او يلتحوف الناس حافوا بيدرك..)

ما كتبه علي ابو عراق في(المرويات الشفاهية)على وجه التحديد، يحرّضنا كقراء على مطالبة وزارة الثقافة والمؤسسات المدنية والثقافية الاخرى على القيام بجهد اوسع، وعناية خاصة من أجل لملمة المتون الشفاهية الضائعة، في عراقنا الذي يضيع ساعة اثر ساعة، المتون التي لم يسمع بها الكاتب علي ابو عراق، والتي لم تهتد اليها اقلام أقرانه، فهي عرضة للفقد والضياع، وضياعها هذا يشكل خسارة للذاكرة العراقية، بكل تاكيد. هذا باب لم ينل عناية الحكومات المتعاقبة، وهناك زهد واضح به، على خلاف ما قامت به وزارة الثقافة المصرية، التي أصدرت مئات الكتب، وبما حفظ للشعب المصري أثره وتراثه، أو ما أسس له المجلس الاعلى للثقافة والفنون في الكويت وما تقوم به البحرين والسعودية وغيرها من الدول.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram