لطفية الدليمي
كلّ لغة جديدة نتعلّمها هي عين جديدة نرى بها العالم، وفي الوقت ذاته هي (مصرف جيب) قد نحتاجه للإيفاء بمتطلبات معيشتنا عندما لايكون أمامنا من مورد عيش سواها. أعرفُ أناساً حصلوا على شهادة دكتوراه في تخصص علمي مرموق ؛
لكنّ الترجمة هي التي وفّرت لهم مالاً أقاموا به أودهم حتى أتيح لهم تثبيت إمكانياتهم الاكاديمية لاحقاً. الترجمة لن تخذلك وقت الحاجة إلى لقمة عيش، وفي الوقت ذاته هي وسيلتك لرؤية العالم بعين جديدة. كل لغة جديدة نتعلّمها هي عين جديدة نرى بها العالم: هذا ماكتبته غير مرة من قبلُ، وسأظلّ أردده، وأنا في غاية الوثوقية من صوابية هذا القول بشواهد عملية إختبرتها في الديار الأجنبية.
الحضارة الاسبانية قريبة لنا – نحن العرب -. لنتركْ وقائع السيادة العربية على الربوع الاندلسية ولنجرّب أن نترك التلصص من ثقب باب صغير على مقطع تاريخي غادرناه وظللنا ننتحب بشأنه طويلاً (إبكِ مثل النساء.....)، ولنجربْ بدلاً من ذلك رؤية المشهد بعيون مفتوحة على سعتها، وقبل هذا بقلوب وعقول منفتحة. بَدَلَ التأسّي على شواخص حضارية عربية أندلسية سيكون من الافضل أن نتساءل: هل بيننا مَنْ لايميلُ طرباً مع الموشحات الاندلسية؟ هل ننسى الحكمة الرشدية (من إبن رشد) ومواريثها الرصينة التي أودعها في كتابه (فصل المقال في مابين الحكمة والشريعة من اتصال؟)؟ الأسبان أولاد عمومتنا إن لم يكن في البيولوجيا ففي الثقافة، وهذا يكفي لكي نمدّ أكثر من جسر بيننا وبينهم. أحفاد الموريسكيين بعضُ رائحة الاندلسيين في عالمنا العربي المعاصر ؛ لكنّنا نحتاجُ جميعاً شدّ أواصرنا مع الاسبان لمسوّغات كثيرة، والاقربون الجغرافيون والتاريخيون أوْلى بهذه الاواصر برغم كلّ صليل سيوف التاريخ ونجيع دماء الاصوليات الدينية الكارهة للآخر.
إختار عدد من المثقفين العراقيين أن يكونوا طلائعيين في بناء جسرنا الثقافي الواصل بين بغداد وأسبانيا. أتحدث عن العراقيين حصرياً وليس سواهم من العرب. أولُ خياراتي هو الدكتور بسام البزاز الذي تخصص في اللغة العربية في الاصل ثمّ حصل على الدكتوراه في اللغة الاسبانية عام 1988. أولى أعمال البزاز المترجمة كانت عام 1993، مرّ بعدها بفترة صمت طويلة إمتدّت حتى عام 2017، بعدها إنطلق في الترجمة والتأليف كشلّال هادر وكأنه يسعى لتعويض السنوات الضائعات التي إلتهمتها ظروف الحصار والاحتلال. البزاز هو أحد أعمدة قسم اللغة الاسبانية في كلية اللغات بجامعة بغداد ؛ لكن الظروف لم تساعد في أن يختصّ القسم بجهود البزاز ؛ فظلّ كطائر الليل (المضيئ) الذي يحطّ رحاله في غير مدينة حتى انتهى به المطاف في العاصمة (الجزائر). قرأت له ثلاثة كتب مترجمة: (من ذاكرة الطفولة والشباب) للفيلسوف الاسباني ميغيل دي أونامونو، (الرجل الذي كان يحب الكلاب) و (رواية حياتي) للروائي الكوبي ليوناردو بادورا، وحدستُ من قراءتي هذه هندسته الترجمية المهووسة بالدقة والتنظيم الذي أعرف كم يصيبُ صاحبه بالاجهاد العقلي. كم كان مثيراً أن أقرأ للبزاز مايؤكد حدسي هذا عندما وصف حالة الوسواس القهري التي يعانيها والتي تتمثّل في المراجعة والبحث والتدقيق في أدقّ المسائل، نحويّة كانت أم إملائية أم معرفيّة، والاعتناء المفرط بتصميم الصفحة وقياس المسافات بين الأسطر والفقرات والفواصل والنقاط والهوامش وحجم الحرف. يضيف البزاز بلسانه: « لطالما رأيتُ في نفسي حائكاً. أستخدم جملة من القواميس والمواقع، أعود في الصغيرة والكبيرة إليها لحلّ كلّ إشكال يعترض سبيلي. أستطيع القول بأنّ نفس الوسواس القهري الذي يجعلني مسكوناً بالترتيب والتناظر يحكم أفعالي في الترجمة «.
الاسم الثاني في قائمة خياراتي هو باهرة عبد اللطيف ياسين. عرفنا باهرة في أعقاب حرب 1991 عندما نشرت لها دار المأمون ترجمة باهرة كإسمها لمذكرات أحد أكابر المثقفين الاسبان، رافائيل ألبرتي. جاءت المذكرات بعنوان (الغابة الضائعة)، وأظنها لقيت رواجاً أقلّ بكثير ممّا تستحق بسبب مفاعيل الحرب القاسية. عملت باهرة أستاذة أيضاً في قسم اللغة الاسبانية بكلية اللغات بجامعة بغداد، وهي فضلاً عن الترجمة الادبية متخصصة بالترجمة الفورية الاحترافية، ولها أعمال شعرية منشورة. إختارت باهرة أن توجّه بوصلتها صوب الديار الاسبانية ؛ فحطّت رحالها هناك وهي تواصل العمل كأستاذة في جامعة إسبانية معروفة. نشرت قبل شهور قليلة ترجمتها لرواية تاريخية موريسكية عنوانها (سماء متشظية) كتبها (فرناندو باريخون)، وهي (كما عرفتُ من قراءاتي عنها) رواية مشتبكة فيها إحالات وتفاصيل تاريخية غزيرة وتتطلب قارئاً يهوى هذا الصنف من الاعمال. أتمنى أن تجد هذه الترجمة رواجاً واسعاً في فضاء الثقافة العربية.
ثالث الاسماء هو (محسن الرملي) الذي عرفناه كاتباً وروائياً ومترجماً من الاسبانية وإليها. قرأتّ له روايتين من رواياته الصادرة عن دار (المدى) ؛ لكني للأسف لم تسعفني الصدفة السعيدة بقراءة أي من ترجماته باستثناء كتاب (الادب الاسباني في عصره الذهبي) الذي صدر عن المدى عام 2015.
رابع الاسماء هو (حسين نهابة) الذي أسس دار نشر أبجد. تبدو مواهب نهابة التي نقرأ عنها في سيرته كثيرة متعددة ؛ فهو شاعر ومترجم عن الاسبانية والانكليزية، وحتى كاتب مسرحي ومنتج سينمائي. ترجمات نهابة كثيرة، ومن المهم الاشارة إلى ترجماته التي إبتدأها بمفردة (موسوعة) والتي تضم ترجمات لأعمال شعرية وقصصية لكتّاب عرب إلى الاسبانية ؛ وهو بهذا الفعل يساهم في تعريف الادب العربي إلى الاسبان.
هؤلاء العراقيون الاربعة نجوم لامعة في فضاء الاشتغال الثقافي الذي يخدم الثقافة العربية والعالمية المعاصرة، وهم بدأبهم واشتغالهم الهادئ والصبور من غير ضجيج إنما يستحقون كلّ الإحترام والاشادة ومتابعة أعمالهم الابداعية والترجمية.
جميع التعليقات 1
بسّام البزّاز
بوركت أستاذة لطفيّة. أسعدني ما قرأتُ من أحكامك وتقويماتك وأودّ أن أضيفَ إلى معلوماتك إنّ هاجسي الآن ومنذ زمان هو السنوات التي مضت: أين راحت؟ أعدّها وأعاود عدّها فأجد أنّي لم أبطّل ولم أكن عاطلا عن العمل في يوم من الأيام. فأين راحت السنون أذا؟ مودتي.