عبدالله حبه

" القسم السابع"

وفيما يتعلق بالكتاب الروس عموما فقد كان معجبا ليس بالأبطال والشخصيات الظريفة فقط ، بل بحياتهم وسلوكهم. وكيف يغمرهم القلق والتواضع الخالي من أية عجرفة خفية . وطبعا كان الكثيرون يتميزون بحب الظهور. لكن لا يجوز قول شيء آخر عنهم .

وظهرت طائفة ممن يسمون ب" الكتاب الريفيين" . وقال غائب إن الأبطال لديهم مجرد أناس بسطاء. إنهم أناس طيبون ومخلصون وودودون ، ويتسمون بما يفتقد له الناس اليوم. إنهم يتحدثون عن معاناتهم، وليس فقط عن فقدان التقاليد القديمة الطيبة ، ولكن قبل كل شئ عن الإنحطاط الأخلاقي الحالي. ولكن بلا حقد وبلا روح عدوانية. ونحن قرأنا أعمال فكتور أستافييف وفالنتين راسبوتين وف.بيلوف وفيودور ابراموف.

قال راسبوتين في حديث معه ردا على السؤال حول ما هو برأيه نتيجة عمل الكاتب بقوله أنه يساعد لحد ما في بناء الروح البشرية بشكل صائب ، وتربية المشاعر وإشاعة الأمل في أن الأمور يجب ألا تمضي بهذا الشكل.

قال غائب :هذا طبعا يعتبر الشئ الرئيسي بالنسبة الى الكاتب ، لكن من الصعب تحقيق ذلك بصورة طبيعية وصادقة كما لدى " الكتاب الريفيين". وهناك يتحسس القارئ بأنهم قد أكسبوا إبداعهم الكثير من مشاعرهم الشخصية وخبرتهم المريرة.

إشترينا بعض الكتب وبدأنا بقراءة " تاريخ الدولة الروسية لكارامزين " و"تاريخ روسيا " لسولوفيوف. إن القراءة صعبة . وتركنا ذلك الى وقت مناسب آخر .

تعرف غائب لدى عودته من المؤتمر الأدبي في بغداد على شاعر جورجي ( جلسا في الطائرة جنبا الى جنب). وقد قيل عنه أنه " شاعر قدير " لا أكثر ولا أقل. علما إنه كان يرتبط بعلاقات صداقة مع كثير من الشعراء الروس ( ن. تيخونوف وم.دودين وغيرهما )، وزار الأماكن الأدبية الشهيرة في روسيا – مثل ميخايلوفسكويه حيث عاش بوشكين وتارخاني حيث عاش ليرمونتوف. وكانت أشعار الجورجي هذا تردد في قاعة الأعمدة بموسكو والقاعة الكبرى في فلهارمونيا لينينجراد. وقد نسب الى رعيل الشعراء الأمميين ومنهم أ.ايساكيان وناظم حكمت وبابلو نيرودا وغيرهم والذين ترمز أسماءهم الى الصداقة بين الشعوب.

لقد وصف غائب هذا الشاعر الجورجي بأنه فارع الطول وبوجه بشوش.وعندما قلت له أنني في شبابي قارفت " هذا الإثم" أي نظمت الشعر أيضا ، أجابني بأنه ما زال يفعل ذلك حتى الآن. إن السمة المميزة للعهد السوفيتي هي أنه حتى إنسان كهذا لا يملك النقود ( بالعملة الصعبة" لشراء حاجة ما كهدية الى أهله في البيت ( ولهذا أنا لا أذكر إسمه ). عندئذ قدم له غائب كهدية علبة شاي كبيرة إشتراها في المطار ، بغلاف جميل ، وقد فرح بها جدا. كما فرح غائب لكونه جلب المسرة الى شخص أعجبه. وأظن أنه كان في جورجيا يحظى بالتكريم مرارا حيث كان يقدم الشاي وكذلك النبيذ بوفرة. أما هنا .. فإن الفقر المهين للإنتلجنسيا كان يطال الجميع .

تعرف غائب لأول مرة على أدب الكسندر سولجينتسين في مجلة " نوفي مير" التي نشرت روايته " يوم من حياة إيفان دينيسوفتش ". لقد كان مصير هذا الكاتب غير إعتيادي . وجرت مناقشة إبداعه بعد هجرته القسرية. وكان الموصوع الرئيسي للمناقشة هو مصير كتبه في الوطن . فيمكن أن يعيش الكاتب في أي مكان لكن يجب أن يقرأ في وطنه، حيث يتحدث الناس بلغته التي يكتب بها. وكان النقاد على ثقة من إدراك سولجينتشين لهذه الحقيقة ، والتي لا تمسه وحده أيضا.

كما نشرت أعمال سولجينتسين الأخرى . وسألني غائب :ما هو معنى كلمة الأرخبيل. وكنت أظن أن الأمر يتعلق بالترجمة . فقلت إنها مجموعة من الجزر القريبة من بعضها البعض وتشكل مجموعة لوحدها. فأبدى غائب شكوكه وقال " وأرخبيل جولاج ؟"- عندئذ أدركت مغزى سؤاله.وسأشرح المعنى إنها سلسلة من معسكرات الإعتقال المخصصة بصورة رئيسية الى المعتقلين السياسيين. وكانت توجد بصورة رئيسية في سيبيريا وجزئيا في الشمال وكازاخستان. وكانت تابعة الى الإدارة العامة لمعسكرات الإعتقال التي تشكلت بمرسوم صادر عن اللجنة التنفيذية المركزية لعموم الإتحاد في عهد فيلكس دزيرجينسكي مفوض الشعب " الحديدي" في أيار/مايو 1919 . وتسمى إختصارا تبعا للأحرف الأولى للكلمات في التسمية " أرخبيل جولاج" حسب العادة المتبعة لدينا في إختصار التسميات. ونحن قرأنا فقط بعض أجزاء الرواية المنشورة في مجلة " نوفي مير". فسألت غائب عن رأيه فيما إذا كان ذلك يهم القارئ العربي؟ وربما سيكون تاريخنا ذا عبرة للأخرين . فقال غائب : أنا لا أعلم ، ففي الرواية الكثير من الأمور المرتبطة بتاريخ البلاد وسياستها ، ولابد من معرفة ذلك ، وعندئذ ستجلب الرواية الإهتمام. أما الأفكار فقد ذكر تأثيرها المدمر ، وما يرتبط بها من دوغماتية وأوهام. ويمكن ألا يفهم الجميع هذا . وواضح للعيان فقط أن الحكام إعتبروا إن هذا الأدب ( المقصود بالأمر أعمال الشعراء والكتاب الذين أبعدوا من البلاد ) يشكل خطرا محتملا على سلطتهم . علما إن هذا الوضع ساد دوما. ولو إن نطاق القمع في هذه الحالة كان طبعا كبيرا للغاية، ويبعث على الذهول. وفي وقت لاحق صدر " ألأرخبيل " بثلاثة مجلدات ، وجرى تكريم سولجينتسن بصورة شبه علنية بمناسبة بلوغه السبعين من العمر. وبدأ الإعتراف بنفوذه في وعي المجتمع أدبيا وأخلاقيا وسياسيا. كما أبرزت أقواله في "خطاب نوبل":" إن الكاتب يمكن ويجب أن يعني الكثير بالنسبة الى شعبه". لكن الكثير من أفكاره ولا سيما الجيوسياسية يبعث على الجدل.

في تموز/يوليو كتب عن رجوع سولجينتسين الى روسيا إن " الرسول عاد الى الوطن ". لاسيما إن رجوعه تم من الشرق الأقصى الى موسكو عبر روسيا كلها تقريبا ، وخلال شهرين تقريبا، حيث كان يتوقف في أماكن كثيرة.

في الفترة الأولى كان الجميع ، وأنا منهم ، يتابعون رحلته . وقد رافقته مجموعة تصوير من بي. بي. سي ، وكان الجميع ينتظرون بث صور فيديو شيقة. لكن هذه الآمال لم تتحقق . فقد كان سولجينتسين يسافر في عربة حكومية منفصلة فيها العديد من الخدم مع كابينة لممارسة العمل الأدبي وجهاز هاتف لاسلكي ، وهو كما يبدو شئ معقول بالنسبة الى من يقوم برحلة طويلة ، لكنه ليس كبير الأهمية بالنسبة الى عامة القراء الذين كانوا ينتظرون صدور تصريحات ذات محتوى أكبر. بينما إحتكرت بي.بي.سي حق إنتاج فيلم عن الرحلة. لذا سرعان ما فتر الإهتمام لدينا بهذه الرحلة.

أنا سمعت مرارا أحاديث سولجينتسين من التلفزيون. ويبدو أنه إنسان متقلب المزاج جدا وصريح وعديم المحاباة في إصداره الأحكام والتقديرات. ولم يقترب من أي حزب من الأحزاب الموجودة ، ويبدو أنها جميعا لم تكن موضع ثقته. كما إنه يعتقد إن النظام الحالي في روسيا هو نظام ديمقراطي مزيف. والآن بدأ عرض فيلم في التلفزيون مقتبس من روايته " في الدورة الأولى " الذي كتب السيناريو له بنفسه . والإنطباع الناشئ عنه غير محدد بعد.

ودعنا نستعرض ممثلي الإنتلجنسيا البارزين الذين مروا عبر" الجولاج" ومنهم الشاعر المعروف و. مندلشتام ، وأ. جيجولين مؤلف رواية " الصخور السود "، وهي عبارة عن سيرة ذاتية بلا هوادة ومحزنة إستخدم فيها الوثائق التاريخية أيضا، والعالم والأديب د. ليخاتشوف الذي كان يوصف بأنه " ضمير الأمة " والفيلسوف أ.لوسيف التي أصبحت أعماله في تاريخ الفلسفة وعلم الجمال من المراجع الكلاسيكية. وآنذاك لم يسمح له بالعمل في جامعة موسكو ، وإضطر فقط لتدريس اللغة اللاتينية والأدب القديم في معهد التربية. أنا تعلمت في هذا المعهد في قسم الدراسات العليا وشاهدته مرارا يمشي الى قاعة الدراسة وتقوده زوجته بسبب ضعف بصره.

بدأ الحديث عن سبب مصرع أ.فادييف وهو ليس معاناة المرض الشديد ( لإدمانه على الخمر) بل لشعوره بتأنيب الضمير وإدراك ذنوبه حيال الأدباء الذين تعرضوا للأعتقال والتنكيل ، ومن لم يستطع الدفاع عنهم أو عمل شئ من أجلهم ، وإدراك عجزه التام عن عمل شئ من أجلهم.

لقد نشرت مقالات جاء فيها إن فادييف لم يصور بشكل صادق المصير المأساوي لأبطال منظمة الكمسمول السرية في رواية " الحرس الفتي"، وإن بعض افرادها الذي وصفهم كخونة لم يكونوا خونة البتة ( قصة أولجا ليادسكايا التي جرى قمعها ظلما وعدوانا ثم أعيد إليها الإعتبار وألغيت العقوبة بحقها) .