اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > رؤساء في مملكة الشعر..ليوبولد سنغور (السنغال)

رؤساء في مملكة الشعر..ليوبولد سنغور (السنغال)

نشر في: 13 ديسمبر, 2022: 11:10 م

جمال العتّابي

- 1 -

يصعب قبول الفكرة التي تقول ان الشهرة هي التي دفعت المشاهير نحو الكتابة، بأجناسها المتعددة(الرواية، الشعر، السيرة) وغيرها،

هناك أمثلة كثيرة لرؤساء دول طرقوا أبواب الكتابة، منها الشعر تحديداً، السؤال المهم، ما الإغراء الذي تحققه الكتابة لعالم المشاهير؟ والسؤال الآخر هل وجد هؤلاء في الشعر بوابة سهلة في خوض مغامرة الشعر للعبور نحو المجد؟

ان شخصيات مثل هوشي منه، وماو تسي تونغ، وسنغور على درجة من الاهمية في التاريخ الانساني الوطني، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا في الفكر والممارسة، لكنهم أثاروا فينا فاعلية الجدل، واقتحام القناعات المزروعة فينا، وجدوا سبيلهم للتعبير عن عالم أكثر انسانية، في مواجهة جحيم الحياة، من خلال الشعر، كانوا شعراء أصلاً فارادوا ان يكتبوا تاريخهم شعراً.

محاولة تتبع من هذا النوع، تدعو لتفحص العالم الشعري لدى هؤلاء وما يحمله من اشكال للوعي وتداعيات لديه، ويمكن العودة الى تفحص تمهيدي لحوار محتمل بين الشعر وعالم السياسة بوصفهما ممثلين لثقافتين مختلفتين، ومن الانصاف القول ان هؤلاء (الرؤساء) لم يرد في خاطرهم ان شعر المقاومة ضد المحتل الاجنبي سيقودهم الى سدة الرئاسة في بلدانهم، انما الشعر كان قادراً على امتصاص رحيق الكارثة ومقاومتها في حينها، كان الذيوع والانتشار يعود للشعر ذاته، يحمل حرارة الانفعال في الأحداث المفصلية في تاريخ الشعوب، وهكذا كانت الفرصة مواتية للشعراء، أن يقولوا ما لا تستطيع قوله البندقية، واكتشف الشعراء أن فنهم يكاد يحمل خصوصية الهرب من سطوة الرقابة والبوليس لتصل قصائدهم إلى آذان الجمهور وأفئدتهم. كانوا نماذج مكتنزة بالمعرفة والرؤى.

أول هذه الشخصيات الثلاث التي نتناولها في الدراسة هي الشاعر (الرئيس) سنغور إذ تحمل قصيدته معاني عديدة تقدم للإنسان معرفة لا تضارعها معرفة، لا يستطيع أن يوفرها علم آخر لأنها وحدها تحلق فوق الواقع، انها انشودة الأسرة والوطن والصداقة والحب واللامرئيات، وسنغور من خلال أشعاره وكفاحه السياسي أراد أن يفعل الكثير ليحرر شعبه ويرد اليه وعيه بماضيه وعظمته وان يلهب في الوقت نفسه مشاعر التقدير والتعاطف والاعجاب عند اولئك الذين لا يعرفون أفريقيا، أو الذين لا يعرفون عنها سوى أفكار واهمة.

حياة الشاعر سنغور (1906-2001) حافلة بالأحداث والمفاجآت، فالطفل المتسكع المتمرد على ظروف الرفاه والبذخ أصبح أول رئيس للسنغال عام 1960ثم أعلن تخليه عن الحكم طواعية عام 1980، ولد سنغور في وسط عائلة ميسورة، أبوه كان تاجراً، الا انه تعاطف مع فقراء السنغال، مما عرضه لعقاب أبيه، تلقى تعليمه في المدارس الكنسية الفرنسية بالسنغال، ثم انتقل عام 1928 الى العاصمة الفرنسية ونال شهادة الليسانس من جامعة السوربون برسالة عن (الجنس عند بودلير)، صدر له عام 1948 ديوان شعري (ظلال سوداء)، قصائد عن الحرب والأسر، كما صدر له كتاب (الشعر المالاغاشي) الذي كتب سارتر مقدمته، في عام 1958صدر له ديوان (الأثيوبيات)، وديوان المسائيات عام 1961،ومنح درجة الدكتوراه الشرقية من جامعة السوربون.

فضلاً عن ذلك كان سنغور واحداً من كبار زعماء افريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين، اتسمت الحياة السياسية في عهده بالاستقرار، وتبني التعددية الحزبية في العمل السياسي في الاتجاه نحو اليسار والليبرالية.

القصيدة عند سنغور تضم حشداً من الصور اللامعة، تتراءى أحياناً هادئة وتتلاحق مثل نهر يتموج ماؤه في ضوء القمر، صور متزاحمة ولمّاحة دائماً، مهمتها أن تؤدي الى معنى خفي عميق، الطبيعة كلها، وخاصة الطبيعة الأفريقية مدعوة في القصيدة لخدمة الرمز.

ليست القصيدة السنغورية نسيجاً من الصور فحسب، بل ان أبرز ما فيها إيقاعها، وفي دراسة له عن سان جان بيرس، يعترف بأنه انسان سمعي، تثيره القصيدة في ايقاعها الشعري وموسيقاها، الصورة برأيه بدون ايقاع تفقد قيمتها الشعرية، وهو كأفريقي، يتمتع بحساسية مفرطة للايقاع وتنوعاته الدقيقة، ايقاع القلب والدم والشهيق والزفير والليل والنهار والموت والميلاد.

الكلمة أساس الايقاع في شعر سنغور، انها ليست جوفاء بل من ماء ودم، أشعاره تحفل بكلمات تشير الى مظاهر الطبيعة التي طالما عاش الافريقي في صراع معها منذ فجر التاريخ. في اشعاره تتردد كلمات بعينها (الماء)، المتدفق الذي يجلب معه الحياة، ثم (الريح) التي تثير العواصف وتشيع الخوف، و(الليل) الساحر الذي يبعث على السكينة، وكلمات اخرى: الدم، الأيدي، العيون، الصوت، والأصوات في شعره تتعدد وتتنوع، منها ما هو مدوّي، ومنها ما يهمس ويتمتم، وأصوات النائحين، والمحاربين، وغيرها لتكشف جميعاً عن سر الوجود.

تتمتع لغة سنغور بوفرة محصوله اللغوي وثرائه وبساطته، وكلماته جديرة حقاً بالاختيار والانتقاء، واذا كان الايقاع عند سنغور عنصراً جوهرياً في بناء قصيدته، فانه لا يضحي بموسيقية الشعر في سبيل الايقاع، فاذا كان الزنجي يُرقص حياته فمن المؤكد انه يغنيها أيضاً.

سنغور يتمتع بحساسيةفائقة للموسيقى التي لا تنفصل بحال عن مظاهر النشاط الاجتماعي الأفريقي كافة، منذ أقدم العصور، ليست الموسيقى نشاطاً جمالياً بسيطاً، بل هي قادرة على محاكاة الطبيعة، حافلة بالأصوات والضوضاء، وهذا هو الجديد الذي أضافته الموسيقى الأفريقية الى تراث الموسيقى العالمية.

الشاعر مدين بلا شك الى سني طفولته التي أمضاها في الغابة والحقول مخالطاً الفلاحين، مصغياً لأناشيدهم وتراتيلهم وأساطيرهم التي تتحدث عن عالم مدهش غير منظور، عالم أسرار الروح الافريقية التي عبّر عنها أصدق تعبير في أشعاره، يشدّه وثاق سحري اليه:

أيها الموتى يا من أبيتم أن تموتوا وعرفتم تحدي الموت/

حتى في السي، في السين، في عروقي الرقيقة، ودمي الذي لا يفنى/

له قصيدة مشهورة بعنوان (صلاة للاقنعة) يقول فيها:

يا اقنعة يا اقنعة!

احييك في صمت/لست انت الآخر، جد ذو رأس أسد/

أنت حارس هذا المكان من كل ضحكة. امرأة وابتسامة فاترة/الافريقي يعيش في شركة أليفة مع الموتى، ويصغي لصوتهم الحي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram