عبدالمنعم الأعسم
وضع مؤتمر لندن لمعارضي صدام حسين نهاية عام 2002 الخطوط العريضة لعملية الانتقال من حكم "الفرد الواحد والحزب الواحد واللون الواحد" الى حكم الشراكة والتوافق والقيادة الجمعية.. هكذا في الوثائق..
وفي خلفية هذا السيناريو ثمة موضوعة كان الخطاب المعارض قد روج لها في اكثر من وثيقة وتصريح بان العراق لا يمكن ان يُحكم من جهة واحدة حين يطاح بنظام البعث.. وهذا ما حدث (برعاية امريكية) وتلك هي العملية السياسية التي جرى ويجري الحديث عنها كقاعدة تفاهم بين فرقاء الحكم الجديد، واعتماد مبدأ التضامن و"الموقف الموحد" وادارة الازمات عن طريق الحوار والديمقراطية.. وهكذا قيل.
من وجهة النظر الموضوعية (المجردة) بدا التصوّر المبكر عن وصفة البديل عن النظام السابق سليما، مرتين، المرة الاولى، انه يجنب البلاد مهاوي الصراع بين قوى سياسية متنافرة وتتسابق لفرض سيطرتها على سلطة القرار، والمرة الثانية، انه يضمن نوعا من التطمين المُسبق لجهة "المكونات" والفئات المحلية ان لا تكون عُرضة للتهميش او التنكيل.
وإذ كانت الجيوش الاجنبية الغازية بقيادة الولايات المتحدة هي اداة "التغيير" وبسط الامن وادارة العملية السياسية فقد ظهرت مبكرا النتائج الكارثية لقبول اصحاب مؤتمر لندن بوضع مستقبل البلاد بيد المحتلين حيث بدأ على الارض تدمير بنى الدولة وانتشار اعمال الارهاب والفوضى والنهب، فيما يلزم (موضوعيا وتاريخيا) تحميل نهج صدام حسين المغامر وحروبه العبثية ومصادرته للحريات ومستوى القمع واعمال الابادة الداخلية المسؤولية (أو بعض المسؤولية) عما حدث.
احسب ان التاريخ إذ يدوّن هذه القراءة السريعة "الباردة" لأخطر تحول شهدته الدولة العراقية سيجيب بسهولة عن السؤال التفصيلي الاخطر عما اذا كانت النخب المحلية وزعاماتها التي رعاها المحتلون لادارة وضبط العملية السياسية قد بلغت من النضوج السياسي والرُشد والوطنية والحصانة ضد الامتيازات والاثراء والولاء الخارجي، في مستوى فروض استعادة سيادة البلاد وتحقيق لوازم التغيير وبناء حكم دستوري ديمقراطي جديد، ام انها خلاف ذلك تماماً.
ولا يحتاج المدوّن، مهما كان حياديا، الى عناء التقصي والاستدلال وجمع المعلومات والشهادات للاعلان عن ان هذه النخب كانت فاشلة ومحدودة المعارف بادارة الشؤون العامة، وقد تحولت، بسرعة لافتة، الى فصائل طائفية وعنصرية غاشمة، وجعلت من حياة الملايين العراقية كابوساً غائراً لعقدين من الزمان، فيما ظهرت ساطعة بشاعة الصفقة الامريكية بايداع سلطة القرار، على طبق من ذهب، الى زعامات طائفية وقبلية وفاسدة، سرعان ما سرقت لقمة الشعب ووطنه.
الى ذلك، كفّت العملية السياسية، الان، عن ان تكون دائرة بحث وحوار وتوافق بين الجماعات السياسية النافذة، حيث تشظت مكوناتها الى مجموعات متناحرة، وتحالفاتها الى لقاءات شكلية، سرعان ما تنفرط، وقد حلّت بدلا عنها، في الاخير، غرفةٌ مظلمة تجتمع فيها اشباح، وتُوقع على طاولاتها صفقات توزيع المناصب والاسلاب، والارتهان للقوى المتصارعة على ارض العراق.
والحال، فان العملية السياسية، كمعاهدة شراكة وتوافق، صارت خارج التاريخ، بانتظار ان تُسجل بوصفها فطيسة.
استدراك:
"الخيبة الأولى موجعة، أما البقية فهي دروس تقوية".
مالكولم أكس