ستار كاووش
رغم إنها كانت معلقة في مكان مرتفع، قريباً من سقف صالة المتحف، لكني إستطعتُ تمييزها بسهولة، ولم يقف هذا الإرتفاع حائلاً أمام توهجها وقوة تأثيرها. تراجتُ قليلاً لأتبينها جيداً وأنا أتساءل، تُرى كم عدد المحطات التي مرَّتْ بها هذه اللوحة بعد خروجها من مدينة أنتفيربن البلجيكية (جنوب هولندا سابقاً)
كي تصل الى هنا حيث متحف دريسدن الألماني؟ وقد حَضِيَتْ خلال رحلتها التي إستغرقت أربعة قرون، بمكانة مضيئة كالشمس في تاريخ الفن، ومازالت مشرقة حيث تأخذ مكانها على جدار هذا المتحف. إنها لوحة (ليدا والبجعة) التي رسمها الفنان بيتر بول روبنز سنة ١٦٠١(رسم بعد سنة من ذلك نسخة أخرى فيها بعض الإختلافات البسيطة)، تأملتُ تكوين اللوحة وحركة المرأة فيها، فتأكدتُ مباشرة، بأن روبنز قد إعتمد فعلاً في رسمها على لوحة مايكل أنجلو المفقودة، والتي لم يبق منها سوى التخطيط أو الدراسة الأولية للَّوحة، والذي يتطابق كثيراً مع لوحة روبنز من حيث حركة وإنحناء جسد المرأة وحتى رسم الأصابع، كذلك إنسيابية حركة البجعة التي تداعب المرأة. رغم ذلك هناك إختلافات عديدة أيضاً بين العملين، حيث منحَ مايكل أنجلو المرأة نوعاً الصلابة والعضلات والإستطالة في الجسد، بينما رسمها روبنز بطريقة تشعرنا بالترف وجعلها -كعادة كل نساءه- تميل الى الإمتلاء والنعومة والتوهج، ومليئة بالشبق. قبلَ أن يرسم روبنز هذه اللوحة، سافر الى روما ليطلع على فن عصر النهضه، وهناك شاهد لوحة مايكل أنجلو، وقامَ بدراستها، ثم أعادَ رسمها بعد تأثره الشديد بها، وقد أضافَ للخلفية منظراً طبيعياً، كذلك رسم غطاءً لرأس المرأة. وإكتشفَ الباحثون من خلال الأشعة السينية، إن روبنز قد فكر في باديء الأمر أن تكون اللوحة بيضوية الشكل، لكنه جعلها في النهاية بهذا الشكل المستطيل الذي عُرِفَتْ به.
لكن ما حكاية هذه اللوحة؟ وما هو سر هذه البجعة التي إجتاحتْ تاريخ الفن الكلاسيكي لدرجة قيام فنانين كثيرين ومن عصور ومراحل مختلفة برسمها؟ لماذا أولوها كل هذا الإهتمام؟ وهل تخفي وراءها سراً معيناً؟ ثم ما علاقة هذه المرأة الفاتنة بالبجعة التي تتماهى معها؟ ماهي الرمزية التي تُضمرها هذه الفكرة التي سيطرتْ على الكثير من فناني العالم؟
ليدا والبجعة هي أسطورة أغريقية، وهناك العديد من التأويلات والإختلافات في تفسيرها، لكن التفسير الأكثر شيوعاً وثباتاً هو إن الإله زيوس حَوَّلَ نفسه الى بجعة كي يقترن بليدا، ويقول تفسير آخر بأن زيوس أراد إغتصاب ليدا الجميلة. وتزعم بعض التفسيرات إن ليدا قد أحبت زيوس بالفعل وأرادت الإرتباط به جسدياً، وتفسير آخر يذكر بأنها قد تعرَّضَتْ لغواية زيوس وسقطت في حبائله. وعموماً فكل التأويلات تشير الى المرأة التي تغويها الآلهة بطريقة حسية، حيث تظهر ليدا في كل اللوحات التي تناولت هذا الموضوع، عارية وتحرك جسدها بغنج ولذة، فيما تَنساب البجعة بين ثنايا جسدها وتلامس أكثر مناطقها حسية. ومثل هذه الموضوعات كانت شائعة ومحببة للفنانين، وخاصة في عصر النهضة وعصر الباروك، حيث رسموا الكثير من اللوحات التي تقوم فيها الآلهة بإختطاف النساء الجميلات ومعاشرتهن.
تشير الأسطورة الى إن ليدا قد أنجبت من زيوس -بعد هذه الحادثة- توأماً هما هيلين (ملكة طروادة) وبولوكس، مثلما أنجبت توأماً آخراً من زوجها. وقد تميزت ليدا بجمال أسطوري لا يُقاوَم، حيث ذكر هيرميس في (حوارات الموتى) بأن ليدا وإبنتها هيلين هما الوحيدتان اللتان تمتلكان الجمال الكلاسيكي القديم. وقد دخلت أسطورة ليدا في اللوحات الفنية والمنحوتات وأعمال الموزائيك على مرِّ التاريخ من خلال فنانين كبار، مثل الأغريقي ثيموتيوس والإيطالي ليوناردو دافينشي والفرنسي أدولف إيفون والفرنسي غوستاف مورو والروسي أليكسا نوفاكيفيسكي والفرنسي سيزان والكولومبي بوتيرو وأعداداً أخرى لا تُحصى من الفنانين. وتعدت هذه الأسطورة فن الرسم والنحت، لتؤثر على الكثير من المبدعين الآخرين، مثل الشاعرة والكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث، والتي أدخلت جانب من أسطورة ليدا والبجعة في مسرحيتها”ثلاث نساء” وأوضحَتْ ذلك من خلال إحدى شخصيات المسرحية التي تعرضت للإغتصاب، وكتب الشاعر النيكاراغوي روبين داريو قصيدة رائعة حول هذه الأسطورة، كذلك كتب الشاعر الانجليزي وليم ييتس قصيدته الخالدة (ليدا والبجعة) والتي يعتبرها الكثير من المؤرخين، واحدة من أعظم القصائد التي كُتبت في القرن العشرين. وإمتَدَّ تماهي هذه الأسطورة الى الأفلام والكتب والروايات والمسرحيات، ليصل تأثيرها حتى الى الأزياء، كما فعلت الممثلة الشهيرة مارلين ديتيرش في عام ١٩٣٥ حين أرتدت في إحدى حفلات هوليوود ثوباً مُستَوحاً من إسطورة ليدا، صَنعهُ لها مصمم الأزياء الشهير ترافيس بانتونو، وكان فستاناً أبيضاً من التول والريش بفتحة في الفخذ، وذيل يشبه ذيل البجعة، والمثير في الفستان هو وجود بجعة من القماش والريش تَلُّفُ رقبتها حولَ عنق ديتيريش ذاتها، فيما برز جناحان من الريش على جانبي الفستان، أحدهما يغطي صدرها ويهبط للأسفل، فيما الثاني يمر بكتفها الأيسر ويمضي للأعلى. يا للفستان الذي لا يمكن أن يُقال عنه سوى إنه طاغي الفتنة وباهر الجمال.
هكذا إحتلت هذه الشخصية مكانة كبيرة ومتشعبة لدى الكثير من الفنانين والمبدعين وصانعي الجمال. وهذا يقول ما فيه الكفاية عن شخصية ليدا التي خرجت من الأسطورة ودَنَتْ منا لتهبَنا جمالها، وتسحرنا كل هذه القرون.