اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كسلٌ وغفلةٌ وإخوانيات

كسلٌ وغفلةٌ وإخوانيات

نشر في: 20 ديسمبر, 2022: 11:10 م

لطفية الدليمي

الكتب بهجة ممتدّة، ومعارض الكتب أراها تجسيداً حقيقياً لفراديس (بورخس) الأرضية قبل أن تتحقق نبوءة الرائي العظيم في عوالم أخرى.

كان أمراً مبهجاً ومحزناً في الوقت ذاته أن أتطلّع بوساطة فديو قصير في غلاف أحد المنشورات الثقافية المعروضة في أحد أجنحة معرض العراق للكتاب المخصصة لجهة ثقافية حكومية. كلّ كتاب هو مصدر سعادة وبخاصة عندما ترى كثيرين يتحلقون لشراء الكتاب وتصوير أنفسهم (سيلفي) مع أغلفة الكتب. الكتاب الذي شدّني إليه الفديو – بين كتب أخرى كثيرة – تناول ذكرى إستعادية لأحد كبار صُنّاع الثقافة العراقية والعربية في القرن العشرين. هذا بالتأكيد أمرٌ يبعث على الفرح والنشوة ؛ لكنّ حُزني إنبثق من كوني إسماً من المشاركين في كتابته. شعرتُ وأنا أرى الكتاب بشعور ربة منزل صرفت جهداً كبيراً في إعداد طبخة شهية ثم إرتأت أن تأخذ قسطاً وجيزاً من الراحة ؛ فما كان من عيالها سوى أن غافلوها وأكلوا الطبخة عن آخرها. ماذا بوسْع الام أن تقول؟ ستقول: هنيئاً مريئاً وألف عافية.

الكتابة ليست طبخاً. قد تكون أحياناً شبيهة بالطبخ عندما نكتب مانشاء في الوقت الذي نشاء وبالكيفية التي نشاء ؛ لكنْ عندما يطلبُ إليك أحدهم الكتابة في موضوع محدّد خدمة لأغراضه هو فتلك مشقة مابعدها مشقة. حلُّ هذه الاشكالية سهلٌ متاح: أن تعتذر وينتهي الامر. ليس الامر بهذه السهولة المتصوّرة ؛ فقد يصعب عليك الاعتذار لأسباب كثيرة منها أنّ موضوع الكتابة يختصّ بشخصية مؤثرة أو ثيمة ثقافية تمثلان قيمة مهمة لديك، و سيبدو التنصل عن الكتابة بشأنهما أقرب إلى خيانة ضميرك. هكذا أتعامل مع الأمر معظم الأحايين ؛ لكنّ الامر لايخلو من تفاصيل أخرى.

الاخوانيات سمة شاخصة في علاقاتنا الثقافية. يكتب إليك أحدهم رسالة تنزُّ بالاخوانيات مثل نزّ الدهن الحر في (الهبيط) !! يسمعونك مفرداتٍ في التقريض والتكريم تتقبلها على استحياء مفرط وتعرفُ أنّ هذه بعضُ طبائعنا العراقية الميالة إلى أقاصي التوصيفات حباً وكراهية. أعرفُ من خبرتي المديدة أنّ هذا الإسراف في معسول الكلام ولذيذ التوصيفات قد يكون سمة متأصلة في الشخص، وقد لايكون أكثر من (شقشقة) لسان لغرض تمشية الامور والحصول على المراد. أعترفُ أنّ هذه الاخوانيات دفعتني غير مرّة للكتابة في موضوعات لم أشأ الكتابة عنها.

للكتابة شرفٌ واستحقاقات. الكاتب عندما يكتب فإنه يستحقُّ ذكراً لإسمه ومقابلاً لأتعابه. هذه من بديهيات الامور حتى لو لم يُصرّح بها، وحتى لو كان الكاتب شخصاً مصنوعاً من طهرانية خالصة تتعالى على المكافآت المادية والاعتبارية. العبد وحدُهُ هو من يعملُ من غير انتظار مكافأة لعمله. يحصلُ كثيراً أن يتجاوز الكاتب على استحقاقاته المادية لأسباب شتى ؛ لكنّ التنازل عن التنويه الاعتباري به أمرٌ لايصحُ أبداً.

نعرفُ أنّ مؤسسات الدولة العراقية – ومنها المؤسسات الثقافية بالتأكيد - في نسختها الحالية منخورةٌ حتى النخاع ولم تكوّنْ لها سياقات عمل محترمة و تقاليد رصينة ولم تستفد من خبراتها السابقة. نعرفُ أيضاً أنّ معظم العاملين – باستثناء قلّة معدودة - في المؤسسات الموصوفة بعناوين ثقافية ليسوا سوى موظفين ينتظرون راتب آخر الشهر وينساقون لمتطلبات العمل الوظيفي الروتيني. هذا كله نعرفه ؛ ولهذا لم أسأل يوماً عن مكافأة من جهة حكومية عراقية. أقول دوماً: العراق غالٍ علينا جميعاً وأكبر من كلّ المكافآت رغم علمي بأنّ المواطنة الحقيقية تستوجبُ نيل الحقوق كاملة غير منقوصة. العراق ليس بلداً فقيراً يستجدي اللقمة لكي نتبرّع له بالقليل من الدنانير أو الدولارات ؛ لكننا نداري الامر بالقول: لابأس. لنتعاملْ مع الثقافة (وصُنّاعها الممسكين بقيادتها) على أنها مملكة بعيدة عن الخراب والتخريب. نوهمُ أنفسنا لكي لاتتعزز صُوَرُ الخراب في عقولنا.

لكن من حقّنا أن نتساءل: أين مكافأتنا الاعتبارية؟ وكيف تكون تلك المكافأة؟ تكون بأشكال شتى، منها: أن تُعْلِمَ الكاتب بنشر مادته، وأن تسارع لتوفير نسخة له من المطبوع الذي شارك فيه. الكتاب الذي يشارك فيه الكاتب مشروع مشترك بذل فيه جهدا، وله كلّ الحق أن يرى النتاج النهائي وأن يبدي رأيه فيه إخراجاً وتبويباً وطبيعة مشاركات. ليس من المروءة أن يستأثر الناشر بحصيلة الجهد النهائي من غير مشاركة الكتّاب المشاركين. هذه ليست من المروءة أو النزاهة في شيء. لعلّ الناشر سيتعذّر بقلة تخصيصاته المالية لو طلبنا إليه – مثلاً – إرسال نسخة بالبريد العادي ؛ لكن لن ينطوي الامر على الكثير من المشقة لو أرسل الناشر نسخة PDF للكاتب. ربما هي الغفلة أو التكاسل، وفي الحالتين هما أعراضٌ لعلّة عنوانها العريض (نحن نفتقدُ تقاليد المؤسسات الثقافية الرصينة). أقول – وبأسف كبير – أنّ من يفترضُ توصيفهم بصّناع الثقافة الرسمية لدينا يتعاملون مع الكاتب كوسيلة تتيح لهم ملء الفجوات الكبيرة لديهم وإشعار رؤسائهم أنهم منتجون ثقافيون فاعلون، وماهُمْ ورؤساؤهم كذلك من قريب أو بعيد.

قد يرى بعضنا في أطروحتي هذه شيئاً من التشدّد، وأنّ اللين أجدى. الأمر أبعدُ من حيثيات اعتبارية و أخلاقيات عمل. ثمة جوانب عملية يجب مراعاتها. كيف لي معرفةُ أنّ موضوعي نُشِر؟ عَدَمُ إعلام الكاتب بنشر موضوعه ينطوي على استخفاف بقيمة عمله. قد يكون هذا الاستخفاف غير مقصود ؛ لكنّ العاملين وفقاً لتقاليد عمل رصينة لامجال للغفلة أو التغافل في عملهم.

الامور تُعرَفُ على نحوٍ أفضل متى ماقورنت بشواهد مناقضة لها. أذكرُ أنّ الفنان العراقي الراحل (قائد النعماني) تحدّث مرّة، وهو يغالب دموعه، عن ممثل عراقي زميل له تُوفّي بعد أن مثّل حلقات من مسلسل تلفازي تقاضى فيه مائة دولار عن كلّ حلقة. تأوّه النعماني وهو يغص بدمعه عندما ذكر أنه شارك كممثل بدور بسيط في فلم Three Kings الذي أدّى دور البطولة فيه (جورج كلوني). قال النعماني أنه جيء به مع مجموعة من العراقيين ليؤدّوا دوراً لايتجاوز بضع دقائق في نهاية الفلم، وكانت سحنتهم العراقية هي كلّ مؤهلاتهم حتى أن بعضهم لم يتفوه بكلمة واحدة. كلّ ماكان مطلوباً منهم الصراخ والعويل من وراء أسلاك شائكة تفصل الحدود العراقية – الكويتية. يضيف النعماني أنه هو وكلّ جماعته تقاضوا مبالغ جيدة بل أسطورية بمقاييسنا العراقية، وأنه كان يتسلّمُ كل عام شيكاً من الجهة المنتجة للفلم عن أتعابه من الارباح الاضافية المتحققة للفلم. المثير أنهم كانوا يعلمونه بأنّ كامل مبلغ هذا الشيك له لأنهم دفعوا الضرائب مقدماً !!

لاأريد أن أتماهى مع الاغنية العراقية التي تسعى لطلب السلة بعد أن غسلت يديها من العنب ؛ لكني أقول بوضوح: لم تبقَ سلة ولاعنب في خزائن بعض دوائر الثقافة العراقية الرسمية. هذا أمر مفروغ منه. كلّ مانطلبه من (قادة) الثقافة العراقية الجدد أن يتواضعوا ويتعلّموا وأن لايحسبوا الكاتب موظفاً طفيلياً لديهم لايحسنُ سوى تدبيج رطين الكلام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram